
في كل يوم، نقف أمام أنفسنا ونعاهدها على ترك وسائل التواصل الاجتماعي أو التحرر منها، ولكننا سرعان ما نعود «أسرى» لتلك المنصات ولكل ما تستعرضه من إعلانات و«ترندات» ومحتوى يدعونا إلى الاستهلاك، وليس أي استهلاك، بل هو استهلاك فارغ واستعراضي يؤطر انتماءنا ووعينا النقدي في سياق صورتنا المجتمعية.
في ظل هذا الوضع، كيف نحصّن أنفسنا وأسرنا من الاستهلاك غير الواعي؟ وما الخطوات التي يمكن أن تحد من تأثير الـ«سوشيال ميديا» في توجيه سلوكياتنا الاستهلاكية نحو «نتائج لا تحمد عقباها»؟

ترتبط استراتيجيات مواجهة الاستهلاك غير الواعي والاستغلال عبر الـ«سوشيال ميديا» ببناء وعي نقدي تجاه الإعلانات والمحتوى الموجّه، بحيث يضع الفرد لنفسه «نظام تحكم ذاتي»، ويتزود بأدوات وتطبيقات تحد من الاستهلاك المفرط.
يتبدّى الإعلام، في المقام الأول، أداة توعوية و«خط الدفاع الأول» في حماية المستهلك من خلال تسليط الضوء على الأساليب المضللة في التسويق وتبنّي سياسات تعلي مصلحة المستهلك.

تجد علياء الياسي، إعلامية إماراتية وخبيرة اتصال حكومي، أنّ بناء وعي نقدي يتطلب أولاً إدراك الفرد طبيعة المحتوى الذي يتعرض له يومياً، وتزودنا بخطوات عملية لتعزيز التفكير النقدي والوعي الاستهلاكي الناضج، تبدأ بما يلي:
- الوعي والانتباه: أن يراقب الشخص محفزات استخدامه للـ«سوشيال ميديا»، ويميز بين المحتوى العفوي والإعلاني، خصوصاً الذي يتخفى في ثوب الترفيه أو النصائح الشخصية، بينما يحمل أهدافاً إعلانية تسويقية.
- مرحلة تقليص الوقت أو تحديده: وذلك باستخدام أدوات تقنية مثل «Screen Time»، أو تطبيقات مثل «Freedom» و«Forest»، التي تساعد على إدارة الوقت وتحفيز التركيز، وتقليل الإدمان الرقمي، وتعزيز الإنتاجية.
- فلترة المحتوى: من خلال إلغاء متابعة الحسابات التي تعزز المقارنات والاستهلاك المفرط، ومتابعة محتوى توعوي يقدّم قيمة فكرية أو معرفية.
تدريب النفس على طرح أسئلة: من المستفيد من هذا المحتوى؟ وهل أحتاج هذا فعلاً؟
هذه الخطوات التي تقدمها علياء الياسي تؤكد أنها تحتاج للدعم بعدة إجراءات، منها:
- عادة تدوين الانفعالات اليومية بعد استخدام المنصات، ما يعزز الوعي الذاتي: «التدوين الواعي يفتح المجال لمراجعة أثر ما نراه ونستهلكه في مزاجنا ونظرتنا لأنفسنا وللآخرين».
- تدريب النفس على طرح أسئلة نقدية أمام كل إعلان أو محتوى موجه: ما الرسائل الخفية؟ من المستفيد من هذا المحتوى؟ هل أحتاج هذا فعلاً؟
تشرح علياء الياسي: «هذه الأسئلة تبني حاجزاً معرفياً بين الشخص وبين الانسياق العاطفي نحو الشراء، أو التقليد، أو اللهاث وراء الترند».

وتركز خبيرة الاتصال على الدور المحوري للإعلام في تشكيل الوعي الاستهلاكي، وتشير إلى ضرورة العمل على:
- تقديم محتويات إعلامية واعية تُظهر خيارات استهلاكية متزنة وسلوكيات رقمية ناضجة من خلال إنتاج محتوى توعوي جذاب بلغة شبابية، سواء عبر ريلز، أو بودكاست، أو حملات تفاعلية مثل «أسبوع بلا شراء».
- الحرص على إيصال المفاهيم التخصصية والمتعلقة بالاقتصاد السلوكي، والنفسي، والدعاية، والإعلان بأسلوب بسيط وسلس، وشرح كيف تُبنى الولاءات الاستهلاكية، أو كيف تُستغل العواطف في الإعلانات، بلغة قريبة من المتلقي.
- إشراك الجمهور، وتحفيزه على تحليل الإعلانات، وكشف الرسائل الضمنية، بما يعزز التفاعل النقدي لا الاستهلاك السلبي.
وتخلص علياء الياسي إلى أن «التعاون بين الإعلاميين والمختصين في علم النفس والاقتصاد ضروري جداً لتقديم محتوى متوازن يجمع بين التثقيف والمتعة لكون الإعلام اليوم لم يعد ناقلاً فقط، بل أداة لبناء الحصانة النفسية والمعرفية والسلوكية في مواجهة ثقافة الاستهلاك الرقمي».

عوامل الوقوع فريسة للاستهلاك المفرط
فما أبرز العلامات التي قد تدفع الأفراد إلى أن يكونوا فريسة الاستهلاك وتحت تأثير المحتوى التسويقي؟ وما الاستراتيجيات النفسية والأسرية لتعزيز مناعتنا وتحقيق التوازن بين المتابعة ومقاومة ضغوط الترويج المستمر عبر الـ«سوشيال ميديا»؟
في هذا الصدد، تؤكد الدكتورة إسراء شاكر السامرائي، مستشارة نفسية وأسرية ومحاضرة في الكلية الجامعية للأم والعلوم الأسرية، أنّه «في عصر أصبحت تهيمن فيه وسائل التواصل الاجتماعي على تفاصيل يومياتنا، أصبح الاستهلاك غير الواعي ظاهرة متفاقمة تمس الأفراد نفسياً وسلوكياً واقتصادياً، ولا يقف الأمر عند شراء منتجات غير ضرورية، بل يمتد للتأثير على الصورة الذاتية، والقيم، وطرق التفاعل مع الآخرين».

في هذا السياق، تحلل د. إسراء السامرائي العوامل النفسية والاجتماعية التي تدفع الأفراد للوقوع فريسة لهذا النمط من الاستهلاك، وأبرزها:
1. تدني تقدير الذات: يُعد تدني تقدير الذات أحد المحركات الأساسية. فالأشخاص الذين يعانون من صورة ذاتية سلبية يميلون لتعويض هذا النقص بشراء منتجات أو تقليد أنماط حياة تُعرض عبر المنصات الرقمية، بحثاً عن شعور مؤقت بالقبول والانتماء.
2. الحاجة إلى القبول الاجتماعي: الضغط النفسي الناتج عن الرغبة في الظهور بمظهرٍ يتماشى مع «الموضة الرقمية» و«الترندات» السائدة، يدفع البعض للانخراط في سلوكيات استهلاكية غير مد
3. الإغراء البصري والتسويق العاطفي: المحتوى البصري المصمم باحترافية، والمقرون برسائل عاطفية تمس الاحتياجات النفسية (كالسعادة، والحب، والنجاح)، يساهم في تحفيز الرغبة في الشراء دون وعي.
4. غياب الوعي المالي: كثير من المستخدمين، خاصة من فئة الشباب، يفتقرون إلى الثقافة المالية، ما يجعلهم أكثر تعرضاً للإنفاق الاندفاعي.
5. الشعور بالفراغ أو الملل: اللجوء إلى تصفح الـ«سوشيال ميديا» أثناء الفراغ يجعل الشخص أكثر تعرضاً للمحتوى الترويجي والاستجابة له.
تجربة «يوم بلا سوشيال ميديا» خطوة لاستعادة التوازن وأنشطة رقمية بديلة تعزز الوعي الذاتي
علامات الوقوع فريسة الاستهلاك
وتستعرض د. إسراء السامرائي أبرز علامات الوقوع تحت تأثير المحتوى التسويقي، ومنها:
- التفكير المستمر في العروض والمنتجات بعد رؤيتها.
- اتخاذ قرارات شراء سريعة دون تفكير أو حاجة حقيقية.
- المقارنة المتكررة بالآخرين بناءً على ما يعرضونه من مشتريات وتجارب.
- تصاعد الرغبة في مواكبة الترندات خشية الشعور بالتهميش.
متى يصل الأمر إلى مرحلة الإدمان؟
تشرح المستشارة النفسية والأسرية: «يعّد الشخص في مرحلة إدمان الاستهلاك الرقمي عندما:
- يتحول الشراء إلى مصدر أساسي للراحة النفسية.
- يشعر بالقلق أو التوتر إذا تعذر عليه متابعة الحملات الإعلانية أو العروض.
- يؤثر الاستهلاك الرقمي على التزاماته الأسرية أو العملية.
- يتعرض لمشكلات مالية متكررة بسبب إنفاقه غير المنضبط.
- يعجز عن مقاومة الرغبة في تقليد ما يراه على السوشيال ميديا».

وتزودنا د. إسراء السامرائي باستراتيجيات نفسية وأسرية لتعزيز المناعة ضد الاستهلاك غير الواعي:
- تعزيز تقدير الذات: من خلال العمل على بناء هوية مستقلة لا تتأثر بصور الآخرين، والاهتمام بالنجاحات الذاتية بعيداً عن المقارنات.
- إدراك آليات التسويق النفسي: تثقيف النفس حول الطرق التي تستهدف بها الإعلانات عواطف الأفراد، مثل ربط المنتج بالسعادة أو المكانة الاجتماعية.
- مراقبة المشاعر عند التصفح: إدراك الحالات النفسية التي تدفع للشراء، مثل الشعور بالحزن أو الملل، ومحاولة التعامل معها بطرق بديلة.
- ممارسة الامتنان: التركيز على ما يمتلكه الفرد حالياً والاعتراف بقيمته بدلاً من اللهاث وراء المزيد.
استراتيجيات أسرية لتعزيز مناعتنا ضد الاستهلاك
وتستعرض د. إسراء السامرائي الاستراتيجيات الأسرية التي تعزز مناعتنا تجاه الاستهلاك الرقمي، ومنها:
- توعية الأبناء مبكراً: من خلال محادثات أسرية عن التسويق الرقمي وأثره النفسي والاجتماعي.
- تشجيع الأنشطة البديلة: تحفيز الأبناء والآباء على ممارسة هوايات، ورياضات، وأنشطة اجتماعية بعيدة عن الشاشات.
- وضع قواعد منزلية لاستخدام الـ«سوشيال ميديا»: تخصيص أوقات محددة للتصفح، وأخرى للنقاشات العائلية والأنشطة المشتركة.

كما تزودنا د. إسراء السامرائي بخطوات عملية لتحقيق التوازن بين المتابعة وضغوط الترويج:
1. استخدام أدوات مراقبة الوقت: تحديد زمن يومي لاستخدام الـ«سوشيال ميديا»، وتفعيل تطبيقات تحذيرية عند تجاوز هذا الوقت.
2. إلغاء متابعة الحسابات التسويقية المبالغ فيها: تقليل عدد الصفحات والحسابات التي تعتمد على الاستعراض والمحتوى الإعلاني المفرط.
3. تخصيص يوم خالٍ من الـ«سوشيال ميديا» أسبوعياً: لاستعادة التوازن النفسي وتقليل الاعتمادية الرقمية.
4. وضع قائمة أولويات مالية شخصية: تتضمن تحديد النفقات الأساسية والتكميلية والترفيهية، مع مراجعتها دورياً.
5. مراجعة دوافع الشراء قبل اتخاذ القرار: هل أحتاج هذا المنتج فعلاً؟ هل سيضيف قيمة إلى حياتي؟ أم أنني أشتريه بدافع تقليد أو هروب عاطفي؟
6. البحث عن محتوى رقمي إيجابي: متابعة صفحات تحفيزية أو تعليمية تركز على تطوير الذات والوعي المالي.
وتوجز د. إسراء السامرائي: «إن مواجهة ضغوط الاستهلاك الرقمي عبر الـ«سوشيال ميديا» تبدأ من وعي الفرد بذاته، وفهم دوافعه النفسية، وامتلاكه أدوات نفسية وأسرية تمكّنه من التحكم في سلوكه الرقمي والشرائي. ولا يتحقق هذا إلا بتعزيز تقدير الذات، والانفصال عن المقارنات المستمرة، واختيار ما يخدم قيمه وحاجاته الحقيقية».