أساطير «جبل الموتى» في سيوة بمصر... هروب جماعي كشف عن كنوزه المدفونة

يطلّ جبل الموتى على واحة سيوة، مثل حارس أسطوري، ويروي، بمقابره الأثرية التي يزيد عددها على ثلاثة آلاف مقبرة، حكايات من تاريخ تليد استمر لأكثر من عشرة قرون، وشهدته تلك الواحة الغناء الواقعة في قلب صحراء مصر الغربية.


يرتفع جبل الموتى في سيوة فوق الأرض المنبسطة أكثر من 500 متر، ويتميز بتربته الجيرية، وشكله العام الذي يشبه، إلى حد كبير، خلية النحل، ذات العيون الصغيرة. وما يزيد الأمر غرابة هو أن تلك الخلايا قد تشكلت من الحجر على هيئة صفوف منتظمة، ومتتالية بشكل هندسي يشبه شكل الواحة القديمة، إذ يضم عدداً كبيراً من السراديب التي تنتهي جميعها إلى بهو واسع، تمتد منه فجوات مخصصة لدفن الموتى، في نحو 3000 مقبرة، ما يجعل من الجبل، حسبما يقول الدكتور عبد الرحيم ريحان، مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمي بوزارة السياحة والآثار، أحد أجمل المقابر المصرية القديمة التي ظهرت خلال الفترة من 664 إلى 525 قبل الميلاد، واستمر الدفن فيها حتى العصرين، البطلمي والروماني المتأخر، أو البيزنطي، قبيل الفتح الإسلامي لمصر.


حتى منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، لم يكن أحد يعلم شيئاً عن تلك المقابر التاريخية، قبل أن يتم الكشف عنها بالمصادفة، عندما اضطر أهالي سيوة إلى الفرار من نيران معركة حامية الوطيس، بين الجيوش الألمانية، والإيطالية، والبريطانية، في صحراء مصر الغربية، ليتجهوا نحو هذا الجبل مخروطي الشكل للاختباء داخل كهوفه، وتجاويفه الصغيرة، ويكتشفوا أن تلك التجاويف التي تغطي سطح الجبل ليست سوى مقابر أثرية تمتلئ بمئات من المومياوات البديعة، التي ترجع إلى عصور فرعونية، ورومانية، ويونانية، وتترجم في حقيقة الأمر عقيدة الإنسان المصري القديم في البعث والخلود، مثلما تعكس الاندماج الواضح بين فنون العمارة المصرية والإغريقية، سواء عبر النقوش البارزة لـ«الآلهة نات»، وهي تقف أسفل شجرة الجميز، أو رسوم التماسيح التي تمثل «الإله سوبيك»، وغيرها من الكتابات، والزخارف، والنقوش، والرسومات المصرية القديمة.


وتُعد واحة «سيوة» واحدة من اقدم الواحات التي ورد ذكرها في التاريخ المصري القديم، حيث أطلق الفراعنة القدماء عليها اسم «ثا»، وهو الاسم الذي ورد ذكره في العديد من النصوص القديمة التي عثر عليها في معبد ادفو، ضمن مجموعة من النقوش التي تصور وفوداً من الواحات، الشمالية والجنوبية، وهم يقدمون القرابين لـ«الآلهة» خلال القرن الخامس قبل الميلاد، قبل أن يتحول الاسم في العصر الروماني إلى «واحة آمون». إذ كانت الأغلبية العظمى من المصريين القدماء، يعتقدون أن تلك الواحة الغناء القابعة في قلب الصحراء، هي ملاذ الرحمة الذي تكمن فيه الراحة والطمأنينة لكل مرتحل في دروب الصحراء، ما دفع كثير من المصريين لاحقاً، إلى إطلاق اسم «حقل الأشجار» على تلك الواحة، حسبما تقول الدكتورة نسرين الجمال، المفتش بوزارة السياحة والآثار المصرية، وهو واحد من بين أسماء عدة أطلقت على الواحة، ومن بينها «سنترية»، وهو المرادف لاسم «سالي» في اللهجة البربرية، الذي يعني الواحة التي تجمع بين سكون الصحراء، وجمال العيون الطبيعية، وأشجار النخيل الباسقة، وتلال الرمال الناعمة.

تطل الأساطير القديمة بقوة على جبل الموتى، وتضفي عليه مزيداً من الغموض والإثارة، ومن بينها تلك الأسطورة التي تقول إن الجبل يبتلع شيخاً عجوزاً في المساء إذا ما رزقت الواحة في الصباح بطفل جديد، وهي واحدة من الأساطير التي يؤمن بها كثير من أبناء سيوة، ويدلّون عليها بثبات عدد سكان منطقة الجبل، الذي لا يتعدى 340 نسمة، ويقولون إن الأمر يتجاوز بالفعل حدّ المصادفة، إذ دائماً ما يحدث مثل هذا الأمر مع كل مولود جديد، وهو ما يفسره كثير من خبراء الآثار بعمق التراث الكامن في تلك الواحة، الذي يترجم عبر مقابر جبل الموتى، باعتباره جزءاً أصيلاً من عقيدة المصري القديم في البعث والخلود.


تعكس عمارة مقابر جبل الموتى في سيوة، الاندماج الواضح بين فنون العمارة المصرية والإغريقية، سواء عبر النقوش البارزة لـ«الإلهة»، وغيرها من الكتابات، والزخارف، والنقوش، والرسومات المصرية القديمة. وهذا ما يتجلى في مقبرتي «إيزيس» و«باتحوت»، إلى جانب مقبرة التمساح التي تمثل هيكلاً أشبه بكهف، مكوّن من ثلاث حجرات، لم يتم التعرف إلى صاحبها حتي الآن، فضلاً عن مقبرة «ثيبر باثوت» برسوماتها ونقوشها المصبوغة باللون الأحمر، وهي الألوان نفسها التي تميز الأواني الفخارية المستخدمة حتى اليوم في سيوة.

يمر الصاعد إلى جبل الموتى بعدد من الدرجات الحجرية، التي تختفي تدريجياً لتظهر بعدها فتحات المقابر، فتبدو مثل أفواه مفتوحة جاهزة لابتلاع أجساد الموتى الجدد. لكن تلك الرهبة سرعان ما تتبدد على مشهد الواحة الراقدة أسفل الجبل في دِعة، وهدوء بالغَين، فتظهر مبانيها القديمة جنباً إلى جنب مع مبانيها الأسمنتية الحديثة، وطرقاتها الترابية التي تضم عشرات البساتين والعيون، وفي نهايتها غابات أشجار النخيل الممتدة إلى قلب الصحراء، مثل بحر أخضر مترامي الأطراف.


وتعد مقبرة التمساح واحدة من أجمل المقابر الموجودة في جبل الموتى في سيوة، وقد عرفت بهذا الاسم نظراً إلى تهشم اسم صاحب المقبرة، ولإعجاب أهالي سيوة بنقش التمساح الذي يمثل موقعاً بارزاً في المقبرة التي تم الكشف عنها في أربعينيات القرن الماضي، وتُعد من أهم المقابر المنقوشة في الجبل، حيث تزخر بالعديد من المناظر التي تروي نصوصاً من كتاب الموتى الشهير، إلى جانب ما تتميز به عند مدخلها من وجود صور لثلاثة «آلهة»، تمسك بالسكاكين، بغرض حماية صاحب الجثمان من السرقة، أو أعمال النهب للمقبرة التي لا ينافسها جمالاً سوى مقبرة سي ـ آمون، التي عثر بداخلها على عدد كبير من المومياوات، وتجسد التزاوج بين الفن المصري القديم، والفن اليوناني.


وترجّح العديد من النقوش الموجودة على جدران المقبرة أن صاحبها من أصل يوناني، لكنه تزوج من مصر، واستقر فيها. ومن أهم مناظرها منظر قاعة محكمة أوزيريس، ومناظر لـ«الإلهة نوت ربة السماء»، وهي النقوش التي تشبه إلى حد كبير نقوش مقبرة بي بر با تحوت، الذي كان أحد كهنة «الإله أوزيريس»، وتضم المقبرة نصاً كبيراً عبارة عن نشيد موجه لـ«الإله» تحوت، إلى جانب منظر لطقس ديني يعرف باسم سحب الثيران الأربعة.


ترتبط واحة سيوة بالواحات البحرية، ومدينة السلوم القريبة، عبر مجموعة من الطرق الصحراوية، ويمكن الوصول إليها عن طريق مدينة مرسى مطروح عبر طريق يعرفه البدو باسم «درب المحصحص»، وهو نفس الطريق الذي سلكه الإسكندر الأكبر أثناء زيارته التاريخية لمعبد الوحي لـ«الإله آمون» الموجود في الواحة، وهو الطريق الذي يربط سيوة بمنف القديمة، عبر واحة يطلق عليها «أم الصغير»، مخترقاً منخفض القطارة، حتى يصل إلى منطقة وادي النطرون، ومنه إلى منف، وقد سلك الإسكندر الأكبر هذا الطريق أثناء رحلة عودته من سيوة إلى منف، التي قضي فيها شهراً كاملاً.
* تصوير: أحمد شاكر
اقرأ أيضاً:
- نويبع المصرية.. سحر البحر والصحراء في قلب سيناء
- شاطئ الغرام".. لماذا يزوره آلاف السياح؟ وما علاقته بالملكة كليوباترا وليلى مراد؟