تنتصب مقبرة الملك رمسيس الثالث في البر الغربي لمدينة الأقصر، لتروي بمعمارها الفريد سيرة حياة واحد من أعظم الفراعنة الذين تولوا حكم مصر على مر التاريخ، فيما تكشف نقوشها الفريدة التي لا تزال تحتفظ بألوانها الزاهية، وكأنما نقشت بالأمس، جانباً من تفاصيل تلك النهاية الدامية للفرعون العظيم، والتي تسببت فيها مؤامرات نساء القصر، طمعاً في الفوز بعرش البلاد، قبل أن تنتهي إلى موت الفرعون ذبحاً، على يد أربعين رجلاً وامرأة من خاصة حاشيته.
مقبرة رمسيس الثالث
يصنف كثير من الآثاريين مقبرة رمسيس الثالث الكائنة في منطقة وادي الملوك، بالبر الغربي للأقصر، باعتبارها واحدة من أجمل المقابر الملكية التي جري اكتشافها في العصر الحديث، إن لم تكن الأجمل على وجه الإطلاق، فالمقبرة التي تمتد في باطن أحد جبال البر الغربي، بطول يصل الى نحو 180 متراً في قلب الجبل، لا تزال تحتفظ حتى اليوم، بنقوشها البديعة، وألوان رسوماتها الزاهية، حتى يكاد الزائر يظن أنها رسمت بالأمس القريب، وليس أكثر من أربعة آلاف خلت.
قصة مؤامرة راح ضحيتها الملك رمسيس الثالث
ينظر كثير من الباحثين في التاريخ المصري القديم، إلى الملك رمسيس الثالث باعتباره واحداً من أعظم الملوك المحاربين الذين ظهروا في تاريخ مصر القديم، إذ نجح هذا الفرعون في أن يحافظ على قوة الدولة، رغم خوضه على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، هي فترة حكمه، العديد من الحروب التي استعرت ضد مصر. ومن عجائب التاريخ، أن تنتهي حياة هذا الفرعون العظيم على نحو مأساوي، فقد دفع الملك رمسيس الثالث حياته ثمنا لواحدة من اخطر المؤامرات التي نفذتها حريم القصر، وانتهت إلى ذبحه.
ويدلل كثير من الباحثين على صحة تلك القصة، بما تضمنته إحدى البرديات التي تكشف عن قيام إحدى زوجات الملك، وكانت تدعي «تى»، بتنفيذ مؤامرة لقتل الملك رمسيس الثالث، حتى تتمكن من تنصيب ابنها «بنتاؤر» وريثا للعرش بدلا من رمسيس الرابع، وهو ابن الملك رمسيس الثالث من زوجته الملكة «ايست».
وتقول البردية، إن «تي» دبرت مؤامرة القتل الكبرى التي اشترك فيها أربعين رجلاً وامرأة. ورغم أن عملية قتل الملك تمت بنجاح، إلا أن ابن «تي» لم ينجح في الجلوس على العرش، بل تم التخلص منه بدفعه لشرب السم، عقاباً له على اشتراكه في تلك الجريمة البشعة.
وقد عثر على مومياؤه بالفعل غير دقيقة التحنيط، وقد تم لفها في جلد ماعز. كما أشار باحثون إلى ما تعرضت له مومياء الملك رمسيس الثالث، وأكدوا وجود قطعين في الرقبة.
«مقبرة عازفي الهارب»
يدخل الزائر إلى تلك المقبرة العظيمة، التي يطلق عليها العديد من الباحثين «مقبرة عازفي الهارب»، عبر ثلاثة مداخل، تنتهي في المنتصف إلى ممر المدخل الرئيسي، الذي ينحرف باتجاه باطن الجبل بدرجات مائلة، تتخللها درجات مقطوعة في الأرض تتخذ طريقها نحو هبوط تدريجي الى الداخل، الذي ينتهي عند عمق يصل الى نحو ستمئة قدم أو يزيد قليلاً، حيث توجد قاعة الأعمدة وغرفة الدفن.
ويذهب كثير من الباحثين المصريين في تفسير ذلك إلى أن المقبرة ربما تكون قد بنيت على ثلاث مراحل، إذ كان الجزء الأول منها يبدأ من المدخل وينتهي إلى مقبرة صغيرة، وقد باشر العمال العمل فيه في عهد الملك ست ناخت، أول ملوك الأسرة العشرين، الذي كان من المقرر أن تجاور مقبرته مقبرة ملكية أخرى، لكن ما حدث هو أن العمال اقتحموا عن غير قصد المقبرة المجاورة أثناء أعمال الحفر، ليتوقف العمل في هذا الممر عند هذا الحد، ليشرع العمال في البحث عن مكان آخر يدفن فيه الملك، قبل أن يأمر الملك رمسيس الثالث في مرحلة تالية باستئناف الحفر لتكون تلك المنطقة مقبرة ملكية له، لتصبح مقبرة رمسيس الثالث، من أطول المقابر المكتشفة حتى اليوم في وادي الملوك، بعد مقبرة الملكة حتشبسوت التي يصل طولها في عمق الجبل إلى نحو 210 متراً.
لم تتوقف التعديلات التي أدخلها رمسيس الثالث على مقبرته عند حد هذا الممر الطويل الذي يفضي إلى غرفة الدفن الملكية، لكنها امتدت أيضاً إلى تلك السلسلة من الغرفات الجانبية الصغيرة التي تتشعب عن الممرين الأولين للمقبرة، وهو أسلوب تتميز به مقبرة رمسيس الثالث دون غيرها من المقابر الملكية الأخرى الموجودة في منطقة وادي الملوك.
وقد دفعت تلك الغرف عالم الآثار الإنجليزي الشهير جون جاردنر ويلكنسون إلى القول إن هذه الغرف ربما تحتوي تحت أرضياتها بعض المسؤولين في البلاط الملكي، الذين عملوا إلى جوار الملك رمسيس الثالث، وقد ظلت تلك النظرية قائمة لعقود طويلة قبل أن تقوم السلطات المصرية بعمليات مسح شاملة للمقبرة في ثمانينيات القرن الماضي، ولم ينته الفحص إلى وجود دليل واحد على ما ذكره ويلكنسون.
يتصدر قرص الشمس، المحاط بالجعران المنحوت، بوابة الممر الرئيسي، بينما يظهر للزائر ذلك النقش الفريد الذي يبدو فيه الملك وهو يقف أمام رع، ومن ورائه المنظر الافتتاحي، الذي يمثل صفحة من «أنشودة رع»، التي يتناثر نصها البديع على طول جدار المقبرة الهابط للأسفل.
ولا تتوقف نقوش مقبرة رمسيس الثالث الفريدة عند حد تلك النصوص، التي يوجد مثلها في كثير من المقابر الملكية الأخرى، لكنها تتميز عن غيرها بتلك النقوش التي تعكس العديد من ملامح الحياة اليومية في مصر القديمة، حيث تظهر في تلك النقوش مختلف المهن التي ظهرت في هذا الزمان السحيق، مثل الخبازين، إلى جانب الجزارين والطباخين، بل وصانعي الجلود وهم يعكفون على صناعتهم، وهو ما يثير الفضول حول وجود مثل تلك المناظر في مقبرة ملكية، إلى جانب أنشودة رع المتناثرة على جدران المقبرة الأمامية، التي تمتد بصورة طبيعية لتزين سقف المقبرة، إلى جانب أربعة وسبعين صورة لـ«الإله الشمسي»، وبعض النصوص التي يتضمنها كتاب الموتى، التي تظهر في نهاية الجدران، إلى جانب صور لأنوبيس وإيزيس ونفتيس.
*تصوير: أحمد شاكر
اقرأ أيضًا: حكايات وأسرار جزيرة سهيل في النوبة
هل زرت مدينة الأقصر؟