شيخة الشرقي: «بيت الفلسفة» تجربة إماراتية رائدة تعيد لأطفالنا قدرتهم على التفكير النقدي
بين الطفل والفلسفة علاقة قد لا نتلمس أبعادها إلا بالإلمام بأهمية الفلسفة في الارتقاء بمسار التفكير النقدي لدى الطفل، وهو أحد أدوار «بيت الفلسفة» في الفجيرة، بما يشكلّه من تجربة إماراتية رائدة واستثنائية لتعليم التفكير الفلسفي للأطفال، وتعزيز ذكائهم العاطفي، وضبط سلوكاتهم.
تواكب الشيخة شيخة سعيد عبدالله الشرقي، منسق مركز الطفل في «بيت الفلسفة»، هذا النهج، إذ تؤمن بأن «التفكير النقدي لا يُدرّس في الكتب، بل يُغرس في العقول منذ الصغر»، داعية الأهل إلى العودة بصغارهم إلى أحضان الطبيعة حيث «يبدأ التفكير الحقيقي».
وتتبدّى أهمية الحوار مع شيخة الشرقي في ظل سيطرة الألعاب الإلكترونية، والتقنيات الحديثة التي سلبت الأطفال والكبار، القدرة على التفكير، واستقاء المعرفة من مصادرها، لنقف أمام أطفال يكتبون قصصاً فلسفية بأنفسهم، وأمام حكايات نجاح تنطلق شرارتها من تساؤل.
في حديثها لـ«كل الأسرة»، تكشف الشيخة الشرقي كيف يمكن للطفل أن يتعامل مع مفاهيم فلسفية عميقة من خلال القصص والألعاب، وكيف تربط الورش التفاعلية الفلسفة بالقراءة والخيال والحرية، في آن:
ماذا يفعل الطفل في «بيت الفلسفة»؟ وما علاقة الفلسفة بالطفولة؟
قبل أن نجيب عن سؤال «ماذا يفعل الطفل في بيت الفلسفة؟»، لا بد أن نتوقف عند سؤال جوهري وأساسي: ما علاقة الفلسفة بالطفولة؟ هذا التساؤل قد يبدو للوهلة الأولى مفارقة، إذ إن الفلسفة عادة ما ترتبط في أذهان الناس بالنضج، وبالتجريد، وبالأسئلة الكبرى التي تُطرح في مراحل متأخرة من الحياة. ولكن الحقيقة مختلفة تماماً. فالطفل بطبيعته فيلسوف صغير، يطرح الأسئلة العميقة والبريئة: لماذا نحن هنا؟ من خلق العالم؟ ماذا يعني أن أكون أنا؟ هذه الأسئلة ليست بعيدة عن جوهر الفلسفة، بل هي الفلسفة ذاتها في أنقى أشكالها.
إحدى أهم مهام الفلسفة هي تعزيز الفكر النقدي، وتحفيز العقل على التفكير، الحر والمستقل، وتوسيع آفاق الطفل ليبحث عن المعنى، والغرض، والقيم. وهذه المهارات يجب أن تُكتسب منذ الصغر، وإلّا لن تكتسب أبداً، لأنّه كلما تمّ غرسها في عمر مبكر، كانت النتائج أعمق، وأكثر رسوخاً.
من هنا، كان بيت الفلسفة مركزاً إبداعياً يعلّم الطفل التفكير النقدي، ويسعى إلى تربية ملَكة التفكير لدى الطفل من خلال برامج تعليمية حديثة تعتمد على منهجية P4C (Philosophy for Children)، وهي منهجية عالمية معتمدة تسعى إلى دمج الفلسفة في حياة الطفل اليومية بطريقة عملية، مبسطة، وممتعة.
ما أبرز المبادرات الموجهة للطفل في بيت الفلسفة؟ وهل يمكن للأطفال استيعاب المفاهيم الفلسفية من خلال أنشطة مبسطة؟
لقد خضنا في «بيت الفلسفة» عدداً من المبادرات المبتكرة والموجهة خصيصاً للأطفال. من أبرزها كانت ورش تعليم التفكير الفلسفي من خلال القصص التفاعلية، والحوار المفتوح، حيث تُعرض على الأطفال قصة قصيرة ذات بعد فلسفي، ثم يُطرح عليهم سؤال مفتوح يدفعهم للتفكير، والمقارنة، والربط، والتعبير بحرية عن آرائهم.
كما نظمنا أنشطة تفاعلية أخرى مثل الألعاب الذهنية، والتحدّيات الفكرية، التي تضع الطفل في مواجهة مشكلات، أو مواقف تستوجب منه التفكير العميق، وربما إعادة النظر في مفاهيم معيّنة، مثل «العدالة»، «الحرية»، «السعادة»، وغيرها، وتتطلب ذهناً متقداً يجد الحلول لمشكلات تبدو مستعصية على الحل.
ونعم، بطبيعة الحال، يمكن للطفل استيعاب هذه المفاهيم حين يتم تقديمها بأسلوب مناسب. نحن نستخدم أدوات تربوية معتمدة من جهات دولية، منها مركز «بصيرة»، والمركز البريطاني الأم لـ P4C. نحن أمام علم دقيق ومتكامل، فعرض هذه المفاهيم يتمّ وفق تقنيات P4C كما قلنا، وهي تقنيات حصلنا على اعتمادات بشأنها.
ما الذي يميّز مركز الطفل في بيت الفلسفة عن المراكز التقليدية الموجهة للأطفال؟
التميّز في «بيت الفلسفة» لا يقتصر على البرامج والمحتوى، بل يمتد إلى تصميم المكان ذاته. فقد صمّم ليكون مركزاً خاصاً بتعليم الفلسفة للأطفال، سواء من خلال البناء، أو تقسيم القاعة والتجهيزات اللازمة، وليكون بيئة ملهمة لطفل يفكر، يتأمل، ويطرح الأسئلة بحرية. كل شيء داخل القاعة تمّ اختياره بعناية: الألوان، تقسيمات الجلوس، الأدوات التربوية، وحتى الإضاءة.
ما يميّزنا أيضاً هو النهج التربوي المختلف. نحن لا نلقّن الأطفال معلومات، بل نرافقهم في رحلتهم لاكتشاف المعرفة بأنفسهم. هذا المنهج ينمّي فيهم القدرة على اتخاذ القرار، وبناء الرأي، واحترام الاختلاف.
في إطار مشاركتكم، أخيراً، في مؤتمر «القراءة للمتعة»، كيف يمكن ربط الفلسفة بالقراءة؟ وما التوصيات التي خرجتم بها؟
القراءة ليست مجرّد هواية، بل هي مدخل واسع نحو التفكير الحر، والمتعة الفكرية. وخلال مشاركتنا في مؤتمر «القراءة للمتعة» الذي تنظمه مؤسسة الإمارات للآداب، ركّزنا على هذه الفكرة تحديداً. فعندما يتم تحفيز الطفل على القراءة لا بوصفها واجباً، بل بوصفها مغامرة فكرية، فإنه يندفع إليها بشغف.لذلك، أكدنا خلال المؤتمر أن تنمية الدافع لدى الأطفال من شأنه أن يجعلهم يطلبون المعرفة بأنفسهم.
وقد خرجنا بتوصيات هامة، على رأسها: وجوب ترك الحرية للطفل في اختيار ما يريد قراءته من عدمه. نحن نؤمن أن الطفل إذا ما تم تزويده بالآليات النقدية والفكرية المناسبة، فإن فضوله الطبيعي سيوجهه نحو المعرفة، وسيبحث عن الكتب بنفسه، وسينكبّ على القراءة المثمرة بدافع داخلي، لا خارجي.
سبق وأعددتم أول دراسة خليجية حول أثر تعليم الفلسفة للأطفال... ما النتائج التي توصلتم إليها؟
لقد أعددنا أول دراسة من نوعها في الخليج العربي، لرصد أثر تعليم التفكير الفلسفي في الأطفال، وفي مهاراتهم وملكاتهم الفكرية. والنتائج كانت عميقة وباهرة، حيث تجلى الأثر في بعدين رئيسيين: البعد السلوكي، والبعد التربوي.
في الجانب السلوكي، لاحظنا تغيّراً في طريقة تفاعل الأطفال مع الآخرين، وتحكماً أكبر في الانفعالات وتصويب التصرفات، وتعاطفاً أعمق مع الزملاء، وعدولاً عن السلوكات الخاطئة. أما تربوياً، فقد تحسن أداء الأطفال في المواد المختلفة، إذ إن التفكير النقدي الذي تعلموه ساعدهم على فهم الأسئلة، وتحليل الإجابات، وربط المعطيات.
ما هي أبرز قصص النجاح الملهمة التي شهدها المركز؟
من أكثر القصص التي نعتز بها هي قيام عدد من أطفال «بيت الفلسفة» بتأليف قصص فلسفية صغيرة بأنفسهم، جمعناها لاحقاً في كتاب تمّ توقيعه في معرض الفجيرة لكتاب الطفل. هذه التجربة لم تكن مجرد تمرين في الكتابة، بل كانت تأكيداً على أن الطفل حين يُمنح المساحة والحرية، فإنه يبدع، ويعبّر، ويقدّم رؤى عميقة في عمر مبكر.
على الصعيد الشخصي، كيف تواجهين التحدّيات في تعزيز الثقافة الفلسفية للأطفال؟
على المستوى الشخصي، أواجه الصعوبات على ندرتها، بمزيد من الإصرار والعزم، وبالمرونة في تعديل الآليات المستخدمة لتلائم كل حالة على حدة، وتناسب طبيعة كل طفل. ومن أبرز التحديات تحفيز الأطفال الذين قد لا يجرؤون على التعبير بحرية عن أفكارهم، أو يجدون حرجاً. لذا، لا أتردد في إعداد أنشطة هادفة نصممها خصيصاً لتشجيعهم، وتحفيزهم، وتمكينهم من التعبير عن أنفسهم، في بيئة آمنة وداعمة.
ما رسالتك للأهل في عصر التكنولوجيا والانشغال عن الأطفال؟
عصر التكنولوجيا يتجاوزنا باستمرار. لذا، علينا أن ننصح الأهل بتعليم أولادهم كيفية الاستفادة من إيجابياته، وتفادي سلبياته، بحيث نحتاج إلى تربية الأطفال على الوعي، وتعليمهم كيف يستفيدون من التكنولوجيا، لا كيف يهربون منها، أو يغرقون فيها. وللأهل المنشغلين عن أولادهم أقول: خصّصوا وقتاً أكبر لأبنائكم، استمعوا إليهم، دعوهم يعبروا بحرية، اجعلوهم أصدقاء لكم، اخرجوا معهم في نزهات مستمرة، تسلقوا الجبال، أو اختاروا التخييم معاً، بعيداً عن كل صور التكنولوجيا، وعيشوا معهم لحظات خارج إيقاع الحياة السريع. باختصار: عودوا مع أطفالكم إلى حضن الطبيعة.
* تصوير:سيد رمضان
