من مطبخ صغير في مدينة ميروت القريبة من دلهي، خرج الشيف نافيد ناصر حاملاً في ذاكرته عبق التوابل، ورائحة البيت الأولى، تلك التي علّمته أن الطبخ ليس مجرد وصفة تُتبع، بل لغة من الحب، والنية، والعطاء. وعلى مرّ السنوات، تحوّل ذلك الشغف الطفولي إلى فلسفة طهوية ناضجة، تجمع بين دفء الذكريات وجرأة الإبداع.
واليوم، يقف الشيف ناصر خلف الموقد في مطعم «خَدَك» بدبي، لا ليقدّم أطباقاً فحسب، بل ليحكي من خلالها قصصاً عن الانتماء، والذاكرة، والإنسان.
في هذا الحوار، نقترب من ملامح رحلته، من مطبخ العائلة إلى مطبخ العالم، ومن الحنين إلى الحلم الذي لم يفقد طعمه:
بدأت رحلتك من مطبخ العائلة في دلهي، حيث كانت والدتك مصدر الإلهام الأول لك، كيف أثّرت تلك الذكريات المبكرة في هويتك الطهوية اليوم؟
بدأت رحلتي مع الطعام في مدينة ميروت الصغيرة قرب دلهي، داخل مطبخ والدتي التي كانت تعمل معلمة، ورغم انشغالها لم تكن تسمح لوجباتنا أن تخلو من الدفء والعناية، رؤيتي لها وهي توازن بين مسؤولياتها علّمتني أن الطبخ ليس وصفة، بقدر ما هو نية صادقة، وفعل مغلف بالحب، ليتعمّق هذا الإحساس أكثر خلال عطلاتي في منزل جدّي الأكبر، حيث كنت أرى طقوس الطبخ بكل فخامته. ذلك التناقض بين بساطة والدتي وفخامة المطبخ شكّل فلسفتي، وهي أن الأطباق عاطفة لا تتخلى عن الإبداع.
عندما تقف خلف الموقد الآن، هل ترى الطفل الذي كان يتأمل والدته وهي تطهو؟ وكيف تحافظ على حضور تلك الروح في ما تقدمه؟
بالتأكيد. فجميعنا نحب طعام أمهاتنا، وما يحمله من ذاكرة، وشعور بالراحة والانتماء. ذلك الإحساس بالحنين ما زال يسكن كل ما أقدمه من أطباق مستوحاة من مطبخ أمهاتنا، أو من وصفات الجدّات، أو من نكهات الأسواق الشعبية التي نشأنا فيها، فبالنسبة لي، الطهو هو وسيلة لحفظ الذكريات، وإعادة إحيائها بطريقة تكرّم الماضي، وتحتضن الحاضر.
تؤمن بأن كل طبق يروي قصة. فما الذي تسعى دوماً لأن يشعر به ضيوفك عندما يتذوقون إحدى وصفاتك؟
أن يشعروا بمزيج من الاكتشاف والحنين، فنحن لا نبتكر القصص، بل نكشف عنها من جديد لضيوفي، فأطباقنا حكايات تُروى بالنكهات لا بالكلمات.
تجمع في أطباقك بين الأصالة الهندية واللمسة المعاصرة. كيف توازن بين احترام التراث والجرأة في الابتكار؟
الابتكار لمجرّد التغيير لا يجذبني، إذ يجب أن يكون له سبب حقيقي، فهناك أطباق نُقدّمها كما كانت تُحضَّر منذ أجيال، وأخرى نعيد تفسيرها بأسلوب معاصر، ربما عبر تقنية تقليدية مع مكوّن حديث، أو العكس، فالغاية ليست كسر القواعد، بل تكريم جوهر الطبق، وإعادة تخيّله برفق ليتناغم مع العصر، من دون أن يفقد الأصالة والهوية.
تعتمد فلسفتك على تحويل الأكلات البسيطة إلى تجارب راقية. ما الذي يلهمك اختيار الأطباق التي تعيد تقديمها بهذه الطريقة المتجددة؟
الإلهام يبدأ دائماً من روح الطبق الأصلية، فطبق البهل مثلاً، المكوّن من (الطحال والكبدة والفشة) وهو أحد أشهر أطعمة الشوارع في مومباي، يقدمه كل بائع بلمسته الخاصة، ونحن في مطعمنا نقدمه بأسلوبنا، لا بهدف استبدال التقليد، بل لمواصلة الحوار مع التراث.
بعد نجاحك في دبي وإطلاقك مفهوماً طهوياً يعبر عنك، ما الخطوة التالية في مسيرتك؟
لكوننا في مرحلة التأسيس لمطعم «خدك»، وتركيزنا ينصب على بناء العلامة بحب وتأنّ، فهذا يمنحنا فرصة لأن نكون مدركين لكل خطوة نتخذها، وأن نضمن أن كل تفصيل يحمل معنى، وبكل تأكيد المستقبل مملوء بالأفكار والاحتمالات المثيرة، لكن في الوقت الحالي، كل طاقتنا مكرّسة لترسيخ هذا المشروع، وبناء أساس متين يعبّر بصدق عمّا نمثله، وتقديم مطبخ يعيد تعريف الأطباق الكلاسيكية بلغة العصر، من دون أن يفقد نبض القلب.
وصفات ذات صلة:
- ساندو الأرنب بالجبن... من الشيف نافيد ناصر
- البروكلي بالعسل والليمون... من الشيف نافيد ناصر