06 أغسطس 2025

مريم المنصوري: الأطباق التقليدية هويتي.. و«حمسة» أمي أبرز أسراري

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

كانت والدتها «أمينة» الملهمة الأولى، حيث ظلّت تلك الطفلة «الشقية» تتابع خطوات أمها أينما حلّت. بدأت الشيف مريم المنصوري، المدير التنفيذي ورئيس الطهاة لمطعم «كشتة أمينة»في الشارقة، مشروعها ضمن رحلة طويلة باشرتها كقائمة طعام محدّدة في شهر رمضان المبارك، ولاقت تفاعلاً، فحوّلتها إلى مبادرة، ومن ثم إلى مكان ثابت لتقديم الأطباق الإماراتية التقليدية بروح معاصرة، لا تفقدها مذاقاتها.

من مطبخ والدتها كانت البداية، استوحت منها طريقة «الحمسة» و«البهارات الخاصة»، وحتى «مقدار اليد»، وصولاً إلى تكريم عالمي، ومبادرات مجتمعية تحيي الذاكرة، والهوية.. في هذا الحوار، تسرد مريم تفاصيل الرحلة التي صنعتها بين الطعم والحنين:

مجلة كل الأسرة

ما الذي جعلك ترتبطين بالمطبخ منذ الصغر؟

طفولتي كانت مختلفة، وكنت البنت الشقيّة الملتصقة بأمّها في كل مكان وُجدت فيه سواء في الزيارات أو في المطبخ. هذا الالتصاق ولّد الرغبة لديّ في أن أكون «نفس أمي»، أو نسخة عنها. كنت أراها وهي تصنع الخبز، «تحمّس»، وتردّد أمثالاً مثل: «الّلي في الجدر يطلعه الملاس»، و«حلّي لسانك تلقى الناس خلّانك». كلمات بسيطة لكنها محمّلة بالتوجيه، كأنها تدرّسنا من خلال أطباقها.والدتي كانت حاضرة بروحها وقيمها، وكل ما تفعله كنت أراه هو الصحيح. تلك كانت أول خطوة في طريق طويل من الشغف والنكهات، ورثته عن والدتي التي علمتني كيف يكون المطبخ مساحة للحب والتربية.

مجلة كل الأسرة

ما أول طبق إماراتي أعددته؟

مجبوس دجاج، كان أول إنجازاتي في المطبخ. شعرت بعدها بأن الله وهبني هذا الحس، وموهبة التذوق. أطبخ بعيني أولاً. قد يُقدَّم أمامي طبق جاهز، لكن إن لم يرضِ إحساسي الداخلي، أعيده إلى المطبخ. عيوني هي التي تشعر بأن ثمّة شيئاً ناقصاً، وهذه هِبة من الله.

كيف وُلدت فكرة مبادرة «كشتة أمينة»؟

بدأنا مشروع «كشتة أمينة» كـقائمة طعام محدّدة في شهر رمضان المبارك تتضمن مجموعة من الأطباق الإماراتية التقليدية. نالت التجربة إعجاب الجميع وأثمرت تفاعلا كبيرا من كافة الشرائح المجتمعية. ولأن رمضان بطبيعته شعبي، والناس يصومون ويرغبون في تذوق الأطباق التقليدية خارج منازلهم,تركزت الفكرة أن نأخذ الطعم من البيت إلى البيت وبعد انتهاء رمضان، طالبَنا الناس بالاستمرار، فمددناها في شوال. ثم أوقفناها فعاد الطلب عليها، فأدرجنا أطباقاً، مثل «المضروبة»، كمقبلات. وإثر التفاعل المجتمعي، أطلقنا مبادرة «كشتة أمينة» بالتزامن مع عام المجتمع، وكانت حاضرة في مهرجان قصر الحصن، عبر «طاولة الطاهي مع أمينة»، حيث تُشارك النساء الكبيرات في السن الجمهور ذكرياتهنّ وموروثاتهن. هذه المبادرة لاقت إعجابًا واسعًا، وكانت مختلفة تمامًا عمّا اعتاد عليه الناس ولمست قلوب الأفراد، ويمكن القول إنها كانت الشعلة التي قالت لنا: «أكملوا».

الوالدة أمينة
الوالدة أمينة

لماذا اخترتِ اسم الوالدة أمينة لمطعمك في الشارقة؟

كان تخليداً لاسم أمي عبر الأجيال، ومذاق «حمستها»، ولنقل حبها وحنانها,وتخليدًا لأطباقها ووصفاتها الجميلة. أستطيع أن أقول إنها مكافأة بسيطة مني، أن أجعل اسمها حاضراً بين الناس، ممتداً بين الأجيال، تقديرًا للتربية الجميلة التي ربتني عليها، والمبادئ التي غرستها في داخلي، والوعي الذي اكتسبته منها.

ما أبرز الأسرار التي تعلمتها من الوالدة؟

«الحمسة»، حمسة أمّي غير. كانت"حمستها" مختلفة وكانت دوما تقول: «من زانت حمسته، زانت طبخته».حمستها لم تكن تقليدية، بل كانت تعتمد على الشم، على الإحساس وليس على النظر. وبهاراتها أيضًا سرّ من أسرار المذاق. كنا نحن من يحضّرها بأنفسنا، نحمّصها بأيدينا، نتركها تبرد قليلًا، ثم نطحنها على قطعة من الرخام بالشكل التقليدي.

الطابعُ التقليديّ القديم هو ما يميّز هذه الأطباق؛ فكلُّ شيء كان يُعَدّ «بمقدار اليد». كانت أمي تردّد دائمًا: «أنا مقداري يدي»، ونحن في مطابخنا,نعتمد المقياس ذاته حيث حاولنا قدر المستطاع إدخال بعض العناصر التي تجعل المقادير نتاج إحساس وخبرة، لا أرقام.

مجلة كل الأسرة

ماذا عن التقنيات التي تعتمدينها في الطهو؟

نستخدم العجن على البارد، أحياناً بالثلج، مع تخمير طبيعي لثلاثة أيام. ونطبّق «التودين» لطبقة العيش (الخبز)، بين ساعتين إلى ثلاث، وليس 20 دقيقة، كما في المطاعم.ونعتمد تقنية الطبخ البطيء — والذي يُسمّى اليوم “Slow Cooking” — كنا نعرفه قديمًا بكونه طبخًا على حرارة منخفضة ولساعات طويلة تمتّد ما بين 6 إلى 8 ساعات. كأن الطعام يُدفن في الحرارة دفنًا, وهذا ما يجعل النكهة تتكامل ببطء وعمق.

نلاحظ أن ثمة لمسات معاصرة على الأطباق؟

نعم, تحمل أطباقنا لمساتٍ عصرية، لأننا ننقل الوصفات من جيلٍ إلى جيل. ولو نقلناها بحذافيرها، قد يملّ الجيلُ الجديد صاحب الإيقاع السريع والترند المتجدِّد. لذلك أسعى إلى صون نكهات الأطباق التقليدية الإماراتية وتقديمها في شكل يرضي العين قبل الذوق.فهذه رحلة تجمع جيلين معًا: الماضي والحاضر حيث نأخذ من الماضي أصالته، ومن الحاضر معاييره وتقنيته، لنقدّم رسالة متكاملة في طبقٍ واحد.

أمي"أمينة" ملهمتي الأولى... وفي مطبخنا ,نستخدم تقنيات العجن على البارد والطبخ البطيء.

كنت أول شيف إماراتية تحصل على الميدالية الذهبية في جائزة «best of gastronomy» في فرنسا.كيف ترصدين محطات نجاحك التي مثلت، من خلالها، الإمارات في المحافل الدولية؟

بالنسبة لي، لم يكن المطبخ الفرنسي صعبًا، بل هو عالم مليء بالدقة والانتقاء العالي.كانت هذه الميدالية محطة مفصلية في مسيرتي. كما تمّ اختياري كمحكّمة رئيسية في إحدى المسابقات الفرنسية المرموقة وجاء بدعم وإشادة من سعادة السفير الفرنسي لدى دولة الإمارات،. وقتها شعرت بأنني لا أمثّل نفسي فقط، بل أمثّل وطني، وأحمل تطلعات كل أم إماراتية، فقيادتنا الرشيدة دائماً تشجعنا، وتصفّق لنا. وأتذكر جيداً كيف نلت إعجاب وثناء الشيوخ، وأصحاب السعادة، وأصحاب المعالي، أمام الجميع في مطعمي، وهذا ما يجعلني أذرف دموع فخر واعتزاز. وأواصل، وأرتقي باسم وطني لكوني امرأة إماراتية.

وبفضل هذا الفخر، أصبح هدفي أن أحقق الأفضل دائمًا، وأن أطمح نحو المركز الأول وإلى جانب ذلك، فإن وجودي كمحكّمة رئيسية في بطولات القهوة العربية منحني وعيًا شاملًا بكل ما يتعلق بتفاصيل المطعم أو المقهى.

فمن المطبخ الساخن والأطباق المطهوة، انتقلت إلى عالم القهوة: من تحميصها، إلى تذوّق مذاقاتها ونكهاتها المختلفة، ثم إلى التعرّف على طرق "الكاليبريشن" الدقيقة، وأساليب إعداد القهوة ومزج المقادير بتوازن تام. كل ذلك كان بالنسبة لي مساحة جديدة وكبيرة من التعلم والشغف.

كما أن مشاركتي في عدد من المبادرات المجتمعية منحتني ثقة أكبر في نفسي، وعززت بداخلي الإيمان بأن علينا أن نطمح دائمًا لنكون الأفضل والأقوى.وبصراحة، هذا الطموح ليس غريبًا علينا. فبلادنا، بحمد الله، أرض خصبة للتميز، ونحن أبناء زايد، لا نعرف المستحيل.

مجلة كل الأسرة

ما البصمة الأبرز التي استطعت تجسيدها خلال هذه المسيرة؟

البصمة التي طبعتها تنقسم إلى شقين يزاوجان بين بين الماضي والحاضر. الشق الأول يتعلق بالحفاظ على الموروث الإماراتي الشعبي من خلال “كشتة أمينة”، وهي بصمة ستمتد عبر الأجيال.

البصمة الثانية وهي وجود عيالي ( الله يحفظهم) في هذا المجال، وهذا يمثل بصمة حقيقية للأجيال الجديدة، حيث نسعى لوضع هذا الجيل على طريق البحث عن شغفهم واكتشاف ما في دواخلهم، بعيداً عن تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا، وهو أمر في غاية الأهمية.

من الواضح أن لديك رسالة أعمق من مجرد الطهي… كيف توصلين ثقافة الغذاء الصحي إلى الأمهات والأطفال من خلال أطباقك؟

من خلال مطاعمنا نسعى لتسليط الضوء على القيمة الصحية للأطباق المقدمة. هذا النهج يهدف إلى تشجيع الأمهات على الاهتمام بتقديم أطعمة صحية لأطفالهن، إذ إن الغذاء الصحي هو الأساس في بناء جيل قوي وسليم. لذلك، أحاول قدر الإمكان أن أرسخ في الأمهات وأطفالهن أهمية المشاركة في تحضير الطعام، حيث أُشجع الأطفال على أن يكونوا جزءاً من عملية صنع الأطباق، لغرس ثقافة الغذاء المنزلي لديهم بطريقة ممتعة وتفاعلية.

ومن الملاحظ، أنه بعد المرور بالعديد من الانتكاسات الصحية والأوبئة، يتزايد وعي الإنسان تجاه الغذاء الصحي. فمثلاً، نحن نحرص في أطباقنا على استخدام منتجات عضوية لا تحوي مواد هورمونية أو إضافات صناعية، وهذه الثقافة الصحية تُدرس للأجيال القادمة، وغالباً ما تكون هذه الرسالة متجلية في دورنا كأمهات.

* تصوير: السيد رمضان