بدءاً من كتابة رسائل الانفصال، وصولاً إلى حلّ الخلافات الزوجية وطلب الاستشارات حول الطلاق، يلجأ جيل جديد إلى روبوتات الدردشة للحصول على نصائح زوجية، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي بسرعة البرق هو الصديق، المقرب والمفضّل، لجيل كامل من الشباب، يستشيرونه في أدقّ التفاصيل، ويلجأون إليه لطلب حلول للمشكلات الزوجية والعاطفية، والأدهى أنهم يثقون بتحليلاته واستنتاجاته حول أسباب الخلاف.
وأخيراً، بدأ الحديث حول استجابة بعض الأزواج والزوجات لتحريض برامج الذكاء الاصطناعي، مثل «شات جي بي تي» وغيره، بعد أن لجأوا إليها طلباً لاستشارة زوجية بعد خلافات مستمرة مع الشريك، لكنهم حصلوا على توصيات مباشرة بالطلاق من دون تقديم خيارات بديلة، أو مراعاة لظروفهم الخاصة.
خبراء العلاقات الزوجية يؤكدون أن هناك تأثيراً كبيراً لاستخدام روبوتات المحادثة الذكية في العلاقات الزوجية والعاطفية، حيث يؤدي ذلك إلى الانفصال، أو الطلاق، بعد أن يتخذ أحد الزوجين هذه التقنية كمرجع للدعم العاطفي، أو حلّ المشكلة مع شريك حياته، بل يتم، في الآونة الأخيرة، استبدال جلسات العلاج الزواجي الحقيقي بمحادثات مع الذكاء الاصطناعي التي تفتقر إلى الخبرة الإنسانية المطلوبة في معالجة الخلافات الزوجية، مؤكدين أن الحلول المقدمة لا تستطيع قراءة السياق العاطفي والاجتماعي للعلاقة، ما يهدّد التواصل بين الأزواج.
سألت «كل الأسرة» عدداً من هؤلاء الخبراء والمختصين بالعلاقات الزوجية والعلاج الزواجي: ما مدى تهديد «شات جي بي تي» للعلاقات الزوجية وتحريضه على الطلاق؟ وهل بإمكان الذكاء الاصطناعي معالجة الخلافات الزوجية؟ وهل من الممكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في تقليل نسب ومعدلات الطلاق؟ وهل يمكن أن يصبح بديلاً فعلياً للخبرات البشرية في مجالات مثل الاستشارات الأسرية؟
استشارة الذكاء الاصطناعي... سلاح ذو حدين
في البداية، يؤكد الدكتور أحمد هارون، استشاري الطب النفسي وعضو الجمعية العالمية للصحة النفسية، أن الذكاء الاصطناعي قد يكون نعمة، أو نقمة، في عالم التواصل والعلاقات الزوجية، لأنه من ناحية قد يسهل علينا الحياة، ويمنحها نصائح مفيدة، وأفكاراً للتجديد، لكنه أيضاً يحمل مخاطر تهدد جوهر العلاقة بين الزوجين.
ويقول: «الذكاء الصناعي يؤثر بالفعل في العلاقات الزوجية، بخاصة بعد لجوء بعض الأزواج والزوجات إلى برامج الدردشة الآلية بشكل صريح، للحصول على استشارات زواجية، ويزداد الأمر عند الذين يشعرون بالعزلة، أو الوحدة، حتى أنه يمكن أن تتحدث روبوتات الدردشة هذه مع الأزواج، وتقدم المشورة بناء على المعرفة عبر الإنترنت، بينما تتذكر أيضاً المحادثات السابقة لوضع سياق لمشاعر الفرد ومشكلاته».
ويضيف: «لكن للأسف، أثبتت بعض الأبحاث، أخيراً، ميل هذه الأنظمة إلى تبنّي وجهة نظر المستخدم الواحد من دون التحقق من تفاصيل الطرف الآخر، أو تقديم تقييم متوازن. وبالتالي، فإن الاعتماد المفرط على هذه التطبيقات ربما يؤدي إلى قرارات متسرعة، وغير متوازنة، مثل الطلاق، نظراً إلى اعتمادها على المعطيات المقدمة فقط، من دون طرح أسئلة متابعة، أو إدراك للسياق الاجتماعي والديني».
ويشير د.أحمد هارون إلى أبرز المشكلات والتأثيرات السلبية التي تلحق بالأزواج من جراء استخدام الذكاء الاصطناعي في الاستشارات الزوجية:
- الاعتماد على الذكاء الاصطناعي كمصدر للفصل في القضايا الأسرية، أو حل الخلافات الزوجية، قد يفتح أبواباً للخصام، ويؤدي إلى قرارات غير متزنة.
- غالباً ما تميل تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى تبنّي وجهة نظر مقدم الشكوى، من دون مساءلة، أو تحليل عميق لدوافع الطرفين، لأنها تستمع إلى طرف واحد من طرفي المشاجرة، وبالتالي، تصدر أحكاماً غير حيادية.
- بعض الأزواج والزوجات قد يلجأون إلى هذه المنصات بدافع الملل، أو التسلية، ويعيدون فتح ملفات قديمة، وطرح أسئلة من قبيل «زوجي يفعل كذا وكذا... هل يخونني؟»، ثم تتحول الأسئلة الترفيهية إلى مشكلات واقعية، تؤثر في استقرار العلاقة الزوجية.
- ثبت أن استخدام بعض الزوجات لكلمات توحي بحدوث نوع من التعنيف اللفظي أو الجسدي، يأتي بردود تقتصر على حثهنّ على جمع الأدلة والتوجه إلى الجهات القانونية، من دون توجيه أي دعم اجتماعي، أو حلول أسرية.
- يؤدي الاعتماد المفرط على الذكاء الصناعي أيضاً إلى روابط سطحية بين الأزواج والزوجات، وزيادة الشعور بالوحدة بينهم، وبمواجهتهم لصعوبات في تطوير روابط عاطفية حقيقية.
- مهما تقدمت التكنولوجيا ستظل العلاقات الحقيقية بين الأزواج والزوجات قائمة على شيء لا تستطيع الخوارزميات استبداله، وهو القلب الإنساني.
التواصل بين الأزواج يقاس بالمشاعر لا بالبيانات
وتتفق معه الدكتورة رضوى فتحي، استشارية العلاقات الزوجية والأسرية بالقاهرة، في أهمية التعامل الواعي مع الذكاء الاصطناعي، بخاصة عندما يتعلق الأمر بقرارات مصيرية تخص العلاقة بين الزوجين، وعدم الاستغناء عن دور المستشارين المتخصصين الذين يملكون القدرة على تقديم حلول، مرنة وإنسانية، تراعي الظروف، وتحقق الإنصاف.
وتوضح «للأسف تحول الأمر إلى موضة، أو تقليعة جديدة بين النساء، حيث يلجأن إلى تطبيقات مثل «تشات جي بي تي»، للحصول على حلول سريعة لمشكلاتهنّ الزوجية، ليجدن أنفسهنّ أمام توصيات قاطعة، مثل الطلاق، ناتجة عن تحليل آلي لصوت غاضب، أو نص غاضب، من دون فهم للموقف، أو للطرف الآخر».
ولكن في المقابل، ترى الدكتورة رضوى فتحي أن اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي في أوقات الأزمات الزوجية ليس دائماً سيئاً، بل قد يحتوي على مميزات يجب الاعتراف بها، من أهمها:
- يعمل «الشات جي بي تي» أحياناً كصديق للشخص الذي وقع في مشكلة مع شريك حياته، ويمكن من خلال محادثته الإلكترونية مشاركة أفكاره، بخاصة إذا شعر بعدم الراحة في التحدث مع العائلة والأصدقاء.
- برامج الذكاء الصناعي نجحت، بالفعل، في تزويد الكثير من المستخدمين بالنصائح الشخصية والدعم، لإدارة اكتئابهم، ومشكلاتهم الحياتية، ومن ضمنها الخلافات الزوجية، حيث يكتشفون من خلالها أنماطاً جديدة أنشطة متنوعة، أو تغييرات في نمط الحياة قد تساعدهم بالفعل.
- يمكن للذكاء الصناعي أن يلعب دوراً في الكشف المبكر عن الاكتئاب الذي يصيب بعض الأزواج والزوجات، وعلاجه، بخاصة لأولئك الذين يخجلون، أو يتباطأون في الحصول على الدعم النفسي، في حالة الإصابة بأمراض تحتاج إلى علاج.
- من أهم الجوانب الإيجابية لبرامج الذكاء الاصطناعي هو قدرتها على تحسين التواصل بين الأزواج. فقد أتاحت تطبيقات إدارة الوقت، أو التذكير بالمناسبات إمكانية تنظيم الحياة اليومية بشكل أفضل. على سبيل المثال يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن تذكّر الزوجين بمواعيد هامّة مثل الذكرى السنوية أو موعد عشاء رومانسي، ما يسهم في تقليل التوتر الناتج عن نسيان هذه المناسبات.
- يمكن للزوجين الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الحصول على نصائح زوجية لتحسين التواصل، وتحقيق التفاهم بين الأزواج، وصياغة رسائل حب وغرام.
- الذكاء الاصطناعي قد يكون قادراً على تقديم دعم فعّال في تحسين العلاقات الزوجية.
- علينا أن نعترف أيضاً بقدرة الذكاء الاصطناعي على تقديم حلول للمشكلات الزوجية بطريقة متقاربة جداً، من استشارات المعالجين المتخصصين، لدرجة أن الأفراد قد يجدون صعوبة في التفريق بين النصائح المقدمة من «شات جي بي تي»، وتلك التي يقدمها الخبراء في هذا المجال.
- يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد على تخطيط الأنشطة الترفيهية المشتركة. فمن خلال تحليل اهتمامات الزوجين يمكن لتطبيقات السفر أو الترفيه المدعومة بالذكاء الاصطناعي، اقتراح وجهات سياحية، أو أنشطة ترفيهية تناسب تفضيلاتهما، ما يعزز من لحظات السعادة المشتركة.
كيف يمكن تدارك الأمر قبل انهيار العلاقة الزوجية؟
أما الدكتورة أسماء صبري، المعالجة النفسية وخبيرة العلاقات الزوجية والأسرية بالقاهرة، فتشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يعتبر أداة قوية يمكن أن تحدث تحولا جذريا في فهم العلاقات الزوجية وتعزيز استقرارها، من خلال تحليل الأنماط السلوكية، والعاطفية، والمالية، بدقة فائقة. وتبيّن أنه يمكن لهذه التقنية أن تسهم في تقليل حالات الطلاق، وتحقيق علاقات أكثر استدامة، ومع استمرار تطور التكنولوجيا قد نصل إلى مستقبل يكون فيه الذكاء الاصطناعي شريكاً موثوقاً في بناء علاقات زوجية، ناجحة ومزدهرة.
لكنها تلفت إلي مجموعة من الملاحظات والنصائح حتى لا يتعرض الزوجان لمساوئ وسلبيات الذكاء الاصطناعي، ومتى يتم تحقيق الاستفادة القصوى منه كوسيط في حل الخلافات، منها:
- يجب أن يدرك الزوجان أن القضايا الشخصية عادة ما تكون ذات وجهين، فإذا كان التطبيق يحصل على معطيات من جانبك فقط، وليس من منظور الشخص الآخر، فمن المحتمل أنك لا تقدم الصورة الكاملة، وبالتالي لن تكون النتائج دقيقة.
- لا يجوز لأحد الزوجين استبدال جلسات العلاج الزواجي الحقيقي بمحادثات مع الذكاء الاصطناعي، بخاصة أن البعض يرفض العودة إلى العلاج بعد أن يجد في الروبوت صوتاً يؤيد وجهة نظره دائماً، من دون أي تحدٍّ، أو نقاش حقيقي.
- يجب على الأزواج أن يتحدثوا معاً بصراحة، وضرورة تخصيص وقت خاص للتفاعل الواقعي، والاستمتاع بوقت جيد معاً، بعيداً عن التشتت التكنولوجي، من خلال تحقيق التوازن في استخدام الهواتف، والتركيز على التواصل الحقيقي.
- يجب أن نعرف أن الذكاء الاصطناعي لن يكون أبداً مثل المعالج الحقيقي الذي يساعدك على رؤية نقاط ضعفك، والتواصل مع شريكك بوعي. إذن، ربما يجعلك الذكاء الاصطناعي تغرق أكثر في رؤيتك الذاتية، ويعمّق المسافة بينكما.
- يجب على الأزواج تحقيق توازن بين استخدام التكنولوجيا والحفاظ على التواصل البشري المباشر، ويمكن تحقيق ذلك من خلال وضع حدود واضحة لاستخدام الأجهزة الذكية، مثل تخصيص أوقات خالية من التكنولوجيا لقضاء وقت ممتع معاً، على سبيل المثال، يمكن للأزواج الاتفاق على إغلاق الهواتف أثناء تناول العشاء، أو تخصيص ساعة يومية للحوار، من دون أيّ تشتيت.
- أنصح دائماً باستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة، وليس بديلاً عن التفاعل العاطفي. فبدلاً من الاعتماد الكلي على تطبيقات التواصل يمكن للأزواج استخدام هذه الأدوات كمصدر إلهام لتحسين مهاراتهم في التواصل، فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام نصيحة من تطبيق لتحسين الحوار كبداية لمناقشة أعمق بين الشريكين.
- كما يجب على الزوجين أن يدركا جيداً أن العواطف والتفاهم المتبادل لا يمكن لأي تقنية أن تحل محلها، لذا فإن الوعي والتوازن هما المفتاح للاستفادة من هذا التطور التكنولوجي من دون المساس بجوهر العلاقة الزوجية.
- العلاج الافتراضي قد لا يكون مناسباً لجميع الأفراد، بخاصة أن أيّ نقص في المعايير الخاصة بتدريب الذكاء الاصطناعي قد يسبب ضرراً للأشخاص الذين يعانون مشكلات، معقدة أو خطرة.
- التواصل هو أساس أي علاقة ناجحة، ومع ذلك، فإن سوء الفهم، أو ضعف التفاعل يمكن أن يؤدي إلى توتر العلاقة.
- يجب ألا ننسى أن تطبيق الذكاء الاصطناعي في مجال العلاقات الزوجية يثير تساؤلات أخلاقية تتعلق بخصوصية البيانات، واستخدامها. ولضمان نجاح هذه التكنولوجيا يجب وضع ضوابط قانونية وأخلاقية صارمة، تحمي حقوق الأفراد، وتضمن استخدام البيانات بشكل مسؤول.
- والأهم دائماً هو تدريب الذكاء الاصطناعي على المعالجة العاطفية من خلال تذكيره بعدم إيذاء أي شخص في العلاقة، أو التعاطف مع الآخر.
- ويجب على الشركات المنتجة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن تقدم ما يكفي لتحذير المستخدمين من مخاطر الاعتماد الزائد عليه، مع ضرورة أيضاً وجود تحذيرات واضحة حول مخاطر الاعتماد العاطفي على هذه المنصات.
