12 مايو 2025

فحوصات ما قبل الزواج.. بين الوعي الصحي والتقاليد والعاطفة

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

تحت وطأة العاطفة والضغوط الاجتماعية، يتجاهل بعض المقبلين على الزواج نتائج الفحوصات الطبية التي تسبق الزواج، ما يتسبب بولادة أطفال يعانون أمراضاً وراثية خطرة، في الوقت الذي تبذل الجهات الصحية في دولة الإمارات جهوداً حثيثة للتوعية بأهمية هذه الفحوصات للحد من انتقال الأمراض، وتعزيز استقرار الأسرة، والمجتمع.

مجلة كل الأسرة

في هذا السياق، ومن واقع معايشتها للكثير من الحالات، تذكر المستشارة النفسية والأسرية الدكتورة هالة الأبلم، قصة زوجين تجاهلا نتائج الفحوصات الطبية قبل الزواج، والتي كشفت عن حمل الزوجة الجين المسؤول عن مرض الأنيميا المنجلية، وعدم الالتزام بتوصيات الطبيب المختص بضرورة التخطيط المسبق للحمل، واتخاذ الإجراءات التي تمنع انتقال المرض إلى الأبناء، بالاعتماد على ضعف نسبة احتمالية انتقال المرض، لتكون الصدمة اكتشافهما إصابة طفلهما بالمرض.

حالة أخرى لزوجين جمعت بينهما قصة حب طويلة، ولكن تجاهل الزوجان توصيات الجهات الطبية بعد أن كشف الفحص الجيني عدم تطابق فحص الثلاسيميا، وبعد عدة أشهر من ولادة الطفل، بدأت تظهر عليه علامات غريبة، ليكتشفا حمله المرض، ما ولّد لدى الأم شعوراً بالذنب الدائم، ولدى الزوج إحساساً بالندم على التهوّر في اتخاذ قرار الزواج، رغم جميع التحذيرات.

يتجاهل البعض نتائج الفحوصات وخطورتها استناداً إلى بعض التجارب السابقة

عن أهمّ الإجراءات المتبعة في فحوصات ما قبل الزواج، توضح استشارية طب الأسرة ومدير مشروع الفحص والمشورة ما قبل الزواج بمؤسسة الإمارات للخدمات الصحية، الدكتورة فاطمة الصاحي «في أول خطوة أثناء زيارة المقبلين على الزواج إلى العيادة، يتم تقديم شرح وافٍ لأهمية فحوصات ما قبل الزواج، والهدف الأساسي منها، والذي لا يقتصر على الكشف عن الأمراض فقط، إنما أيضاً الوقاية منها، وتقليل احتمالية انتقاله بين الطرفين، أو إلى الأبناء في المستقبل. بينما تركز الزيارة الثانية على مناقشة نتائج الفحوصات للحالات ذات النتائج الإيجابية بحضور المخطوبين، للتمكن من اتخاذ قرار واعٍ، سواء كان التشخيص مرتبطاً بمرض معدٍ، أو وراثي، ليتم تقديم استشارة متخصصة تساعدهما على التخطيط لحمل صحي، يقلّل من احتمالية انتقال المرض إلى الأبناء».

وتشير د. فاطمة «تتفاوت ردود الأفعال من حيث تقبّل النتائج الإيجابية. أحياناً يكون الشاب هو الأكثر تقبّلاً، وأحياناً الفتاة، بينما هناك حالات يتخذ فيها الطرفان قراراً فورياً بعدم الاستمرار، ويبقى الأمر مرتبطاً بمدى وعي كل طرف، واستعداده لمواجهة الأمر».. تكمل «النتيجة الإيجابية لا تعني بالضرورة نهاية الطريق، إنما من الممكن أن تكون بداية صحية سليمة، فهناك حلول طبية متقدمة تمكّن الأزواج من تقليل احتمالية انتقال الأمراض، وبشكل خاص في الحالات الوراثية، مثل استخدام تقنية الإخصاب خارج الرحم، مع فحص الأجنة واختيار السليم منها قبل الحمل، أو أخذ عيّنة من السائل الأمينوسي خلال فترة الحمل لتحليل حالة الجنين، والتأكد مما إذا كان حاملاً لمرض ما، في حالة حدوث حمل طبيعي».

مجلة كل الأسرة

ولتجنب الوقوع في إحراجات اجتماعية، تشدّد د. فاطمة على أهمية التخطيط المسبق للزواج، مشيرة إلى أن الخطوة الأولى والأكثر حسماً يجب أن تكون إجراء الفحص الطبي، قبل أيّ إعلان، أو التزام رسمي، بما يمنح الطرفين صورة واضحة عن وضعهما الصحي، ويتيح اتخاذ قرارات مدروسة، سواء كانت النتائج سليمة، أو كشفت عن مشكلات صحية، لتجنب الوقوع تحت ضغوط اجتماعية، وتضيف «تسهم هذه الخطوة في تعزيز وعي المخطوبين، وتمهّد لعلاقة قائمة على الصراحة والوضوح. والفحص الجيني، على وجه الخصوص، يتطلب وقتاً أطول مقارنة بباقي الفحوصات، ربما يصل حتى 14 يوماً لظهور النتائج، نظراً لتعقيده ودقته، ما يستدعي من المقبلين على الزواج تخطيطاً زمنياً دقيقاً، بخاصة عند تحديد موعد عقد القران، «الملكة»، فقد يواجه المخطوبان ضغطاً في المواعيد لعدم معرفتهما بهذه المعلومة، فالوعي بهذه التفاصيل ينظم إجراءات الزواج، ويمنح الشريكين الوقت الكافي لاتخاذ قرارات مسؤولة، بعيداً عن التسرّع».

مجلة كل الأسرة

من جهتها، توضح الدكتورة أسماء السعدي، أستاذ مشارك- كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم علم الاجتماع-جامعة الشارقة «تشكل نتائج الفحص الطبي قبل الزواج نقطة فاصلة في العلاقات، بخاصة في المجتمعات العربية، مثل المجتمع الإماراتي، حيث تتفاوت الاستجابات الاجتماعية بناء على وعي وثقافة الأفراد. فعندما تكون النتيجة غير متطابقة وتشير إلى وجود خطر صحي أو وراثي، يظهر الانقسام الواضح بين من يتعامل بعقلانية مدفوعة بالوعي، فيقبل القرار، ويتجاوب مع التحذيرات الطبية، وبين من يرفض النتائج مدفوعاً بالعاطفة التي تبدو في ظاهرها تضحية يمكن أن تتحول في وقت لاحق إلى عبء، نفسي واجتماعي، بخاصة إذا ما أدى الأمر إلى تبعات صحية تؤثر في الإنجاب، أو الأبناء».

وتضيف «في كثير من الحالات لا يكون القرار فردياً، بل يمتد تأثيره إلى الأسرتين، إذ قد تفرض الضغوط العائلية، أو الأعراف الاجتماعية، رأياً يخالف ما توصل إليه الطب، هذا التباين يضع المخطوبين أمام اختبار حقيقي بين ما تمليه المشاعر، وما تحذّر منه الفحوصات». وتكشف د. أسماء تأثير العادات والتقاليد الاجتماعية، كالزواج من الأقارب أو القبيلة، التي تقدم على حساب مصلحة المخطوبين الصحية، حيث ينظر إلى الزواج على أنه التزام اجتماعي، أكثر من كونه شراكة قائمة على أسس مدروسة. وهذا التجاهل للتوصيات يؤدي إلى مشكلات صحية، أو وراثية، لاحقاً، لا تقتصر آثارها على الزوجين فقط، بل تمتد إلى الأبناء، وهنا يبرز التساؤل: إلى أيّ مدى ينبغي أن تؤثر التقاليد والعاطفة في القرارات المصيرية التي تمسّ صحة الأسرة، واستقرارها المستقبلي؟

تلفت د. أسماء، إلى تبريرات تجاهل نتائج الفحص الطبي «يعزو البعض عدم أهمية النتائج وخطورتها إلى بعض التجارب السابقة في العائلة، معتقدين أن عدم حدوث مشكلات في بعض الحالات يمكن أن ينطبق على الجميع، وهو اعتقاد خاطئ بكل تأكيد، بينما يتجاهلها البعض الآخر لتجنب الحرج الاجتماعي إذا ما كان القرار التراجع عن ارتباط تم الإعلان عنه بسبب نتيجة الفحص، لذلك يقررون المضي في الزواج تجنباً للانتقادات».

مجلة كل الأسرة

أنواع فحوصات ما قبل الزواج

في إطار الجهود التي تبذلها دولة الإمارات في تعزيز الصحة العامة والوقاية من الأمراض الوراثية والمُعدية، يخضع المقبلون على الزواج لفحوصات طبية معينة بهدف ضمان توافق صحي بين الشريكين لإنجاب أبناء أصحاء وتوفير بيئة أسرية مستقرة، منها:

  • فحوصات أمراض الدم الوراثية: مثل الثلاسيميا والأنيميا المنجلية.
  • فحوصات الأمراض المعدية والمنقولة جنسياً: تشمل هذه الفحوصات اختبارات للكشف عن أمراض مثل فيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، والتهاب الكبد B وC، والزهري، التي تهدف إلى منع انتقالها بين الزوجين، أو إلى الأطفال، ما يعزز من السلامة الصحية، للأسرة والمجتمع.
  • الفحص الجيني: هذا وقد تم استحداث «الفحص الجيني» الذي تشير له الجهات المعنية في مركز أبوظبي للصحة العامة «على أنه الخطوة الحاسمة للكشف عن الطفرات الجينية المشتركة بين الزوجين، والتي يمكن أن تنتقل إلى الأبناء، وتسبب أمراضاً وراثية. يشمل هذا الفحص تحليل 570 جيناً، مرتبطة بأكثر من 840 حالة طبية، منها اضطرابات الدم مثل الثلاسيميا، وفقر الدم المنجلي، إضافة إلى الإعاقات المعرفية والحركية، والصمم، وفقدان البصر المبكر، ونقص المناعة، والتشوّهات الخلقية. وتستغرق نتائج هذا النوع من الفحوصات نحو 14 يوماً للظهور، نظراً لدقته العالية، وتحليله العميق للتركيبة الوراثية.

تتحمل المرأة ضغوطاً نفسية مزدوجة لحماية مشاعرها من جانب وتحمل تبعات القرار المصيري من جانب آخر



لكن ما هي الأسباب الأخرى التي تدفع بعض النساء إلى قبول الزواج على الرغم من معرفتهن بمخاطر وتبعات عدم تطابق الفحوصات؟ تشير المستشارة النفسية والأسرية الدكتورة هالة الأبلم «في هذه الحالات غالباً ما تكون المرأة مدفوعة برغبة الارتباط، أو خوفاً من «ضياع الفرصة». وفي لحظة القرار تمتلك المرأة الإحساس بالقوة، أو التحدّي، لكنها في نفس الوقت تكون قلقة بشأن الإنجاب، وصحة الطفل في حال الحمل، ويفسر البعض منهنّ الأمر على أنه «سوء حظ»، أو «نصيب سيئ»، ومن هنا تبدأ رحلة التنازل، وتترسخ قناعة أن هذا الخيار هو «الفرصة الوحيدة» المتاحة». وتشرح «تعيش المرأة في هذه الحالة ضغطاً نفسياً مزدوجاً، فهي من جانب تحاول حماية مشاعرها، ومن جهة أخرى تتحمل عبء تبعات هذا القرار، وعدم تطابق الفحوصات قد يشعرها بشكل غير مباشر بأنها «غير كافية»، أو أنها ستظل مسؤولة عن أيّ نتائج سلبية مستقبلاً، ما يولد لديها شعوراً بالذنب المزمن يؤثر في صحتها، النفسية والعاطفية».

توضح د. هالة أسباب إحساس المرأة بعدم الاستحقاق «هذا الشعور لا يتولد لحظياً، بل يُزرع منذ الطفولة، ويغذى عبر سنوات من التنشئة التي تُعلم الفتاة أن سعادتها مرتبطة برضا الآخرين عنها، وأن التضحية من أجل الآخر هي معيار لقيمتها. ففي كثير من البيئات، لا يقال للبنت «أنتِ تستحقين زوجاً أو شريكاً يقدّر قيمتك»، بل تسمع عبارات مثل «اركبي القطار قبل ما يفوتك»، هذا يعزز لديها القناعة بأن الفرص نادرة، وأن التنازل ضرورة، وقد عمل كل من الإعلام والعائلة، على ترسيخ هذا القالب، فلا يعرض أمامها نماذج لنساء رفضن، أو أخّرن الزواج بوعي، بل تقدم قصص من اختارت التضحية على أنها البطولة الحقيقية، لذلك حين تكشف الفحوصات الطبية عن وجود خلل صحي، تتخذ المرأة خيار الصمت، أو القبول رغم الخطر، لأنها تعرف في أعماقها أن الاعتراض قد يكلّفها «الفرصة الوحيدة»، وأن رفضها يجعلها أقل قيمة في نظر المحيط».