
في أحيان كثيرة تتحكّم آراء مَن حولنا، مِن أفراد المجتمع، في بعض قراراتنا المصيرية، مثل تقبّلنا لفكرة زواج من تقدّم به العمر، كأن هذا الارتباط قطار له وقت مرور محدّد، ولا يحق لمن يفوته اللحاق به، والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يتقبّل بعض أفراد المجتمع هذا الزواج بسهولة، ويضع أمامه العراقيل التي تجعل من يفكر فيه يتردّد في الإقدام عليه؟ وهل هناك سبيل لتقبّل الفكرة من دون خوف، أو خجل؟
الدكتور أحمد آل جميل النعيمي، مستشار أسري وتربوي ومحاضر في الجامعة الأمريكية، بالإمارات، يقول «يُنظر إلى الزواج في المجتمعات العربية باعتباره مرحلة مرتبطة بسنّ الشباب فقط، لكونه العمر الأمثل للإنجاب، ويُبنى على ذلك أن من فاته الوقت المقرر للإنجاب فاتته الفرصة، ولا داعي حينئذ للإقدام على تلك الخطوة، وهذا ليس من الإنصاف لفكرة الزواج، لأنه ليس فقط لذلك، بل للمودة، والرحمة، والأنس، وغيرها من المكاسب النفسية والصحية. فإذا نظرنا إلى الزواج من هذا المنظور الضيّق أكيد ستكون هناك معارضات من المجتمع، لكن وللحقيقة مع مرور الزمن، وما نعيشه من انفتاح ثقافي وفكري، بدأت الدنيا تتغيّر، وصار الناس أكثر وعياً، بخاصة مع ازدياد نسبة العزوبية، وتأخر سِن الزواج، والذي أصبح مستساغاً نوعاً ما».

هل الزواج ضرورة يحتاج إليها الرجل والمرأة لقهر الوحدة، أم شيء يمكن التخلي عنه لاعتبارات اجتماعية؟ يجيب «الموضوع لا يتعلق بالضرورة أكثر من كونه حاجة إنسانية تشبع جوانب أسرية، واجتماعية، ونفسية، ودينية، وفي نهاية المطاف، هو قرار يعود للإنسان نفسه، وحسب تجربته وظروفه، وقدرته المالية والصحية والنفسية، والاجتماعية، والمهم أن الشخص يكون سعيداً بما اختار، ويشعر بالسلام الداخلي، سواء تزوج، أو بقي أعزب، الأمر الذي يحتم على أفراد المجتمع احترام الاختيارات الشخصية، بعيداً عن المعايير الاجتماعية».
مع تقدم العمر والنضج الفكري تتغيّر أولوياتنا وتتغيّر معها احتياجاتنا من شريك الحياة
يجب ألّا يكون التقدم بالعمر للرجل والمرأة حجر عثرة تعيق الزواج، ويشير د. النعيمي إلى هذا الأمر قائلاً «في مرحلة شبابنا غالباً ما تكون لدينا مواصفات صارمة لما نريده في شريك حياتنا، مثل المستوى الاجتماعي، أو الوظيفة، أو السّن، لكن مع تقدم العمر، والنضج الفكري، تتغيّر أولوياتنا، ونبحث عن مواصفات أخرى تميل إلى الإنسانية أكثر من المادية، كالاستقرار النفسي، والاحترام المتبادل، والأمان العاطفي. وعليه، فمن الضروري إعادة النظر في المواصفات التي نضعها في أذهاننا كمعايير للزواج، بخاصة مع تقدم العمر، وهذا التنازل لا يعني التخلي عن الجوهر، إذ يمكن للمرأة مثلاً، أن توازن بين ما تريده حقاً من شريك الحياة، وما هو مناسب لها في المرحلة العمرية الحالية».

ويشير د. أحمد النعيمي «مما لا شك فيه أن للأهل الدور الكبير في حياة الشخص، بخاصة عند الأزمات، والتي منها إن صح التعبير، عندما يواجه تحدّيات أو ضغوطاً اجتماعية مرتبطة بالزواج في سن متقدمة، ما يفرض عليهم عدة إجراءات، منها تقديم الدعم العاطفي غير المشروط، واحترام القرارات الشخصية، والتوجيه نحو الخيارات التي تخدم مصلحة الشخص على المدى الطويل، فهم من ينبغي أن يكونوا داعمين للمرونة في التفكير، مع تشجيع الاستقلالية، وعدم التسرع في اتخاذ القرارات، ما يساعد صاحبه على اتخاذ قرار يشعره بالسلام الداخلي حيالَه، سواء قرر الزواج، أو الاستمرار في العزوبية».
من جانبها، تضيف إسراء عثمان، مستشارة أسرية وخبيرة علاقات زوجية «الزواج للرجل والمرأة لا يرتبط بعمر، بل بحاجة إنسانية، ويجب عدم الخجل من تقبّل فكرة ارتباط من تقدم به العمر، وعدم الالتفات لآراء من لا يفكرون سوى في أنفسهم. فإذا أقبلت امرأة، أو رجل، كبيران في السّن على الزواج سوف يواجهان أفكاراً متباينة من أقرب الناس إليهم، وإذا كانت المرأة مطلّقة، أو توفى شريك حياتها، فأول ما سيفكر فيه أبناؤها هو تعليقات أقاربهم وجيرانهم، حتى الرجل الذي في مثل ظروفها يواجه المصير نفسه، كأنها قاعدة تشير إلى أن من تأخر زواجه، فلا توجد له فرصة في قادم الأيام».
من واجب المجتمع تقبّل الفكرة والوقوف خلف مَن قرر خوض التجربة
«عندما خلق الله تعالى آدم عليه السلام، خلق له زوجة تؤنس وحدته، وتشاركه الحياة، ونصيحتي لكل امرأة تقدم بها العمر، إنْ وجدت شخصاً يضيف إلى رحلتك فلا تتردّدي، وامنحي نفسك فرصة جديدة، ناضجة، وأكثر وعياً، فالزواج كما وضحه ديننا الحنيف سكن ومودّة، ومن واجب المجتمع تقبّل فكرة زواج من تقدّم به العمر، وأن يدرك أفراده حق المرأة في الحب والسعادة في أيّ مرحلة عمرية، كما هو حق للرجل، وأن يدعم أفراده هؤلاء ليس بتقبّل الفكرة، بل بالوقوف الصادق خلف من قرر أن يخوض تجربة الزواج، بروح ناضجة وواعية».
وعن نتيجة تقبّل المجتمع لهذا الزواج، تشير خبيرة العلاقات الزوجية إسراء عثمان «تقبّل أفراد المجتمع للفكرة يُعد أكبر دعم، وإذا قدموا النصيحة بشكل محايد فهذا دعم آخر، وإذا أعطوا أصحاب القرار فرصة لتقييم أنفسهم من دون ضغط، فهذا نوع مميّز من الدعم، فلنكن أصحاب قلوب رحيمة تقدّر احتياجات الآخر».
وفي هذا الإطار، توضح عائشة النقبي، كوتش العلاقات الإنسانية «من خلال تجربتي العملية، لاحظت أن أغلب العراقيل الخاصة بعزوف من تقدم به العمر عن الزواج ليست واقعية، بل نابعة من صورة نمطية رسمها المجتمع لعمر الزواج، فمن تجاوزه أصبح خارج دائرة القبول، مع أن الحياة لا تسير بجداول ثابتة. وعندما أتعامل مع مشاكل النساء والرجال، ألاحظ الخوف من نظرة الناس، أكثر من الخوف من فشل العلاقة نفسها، وهنا يكمن التحدّي الحقيقي، وهو التحرّر من قيود التوقعات الاجتماعية، فكلما زادت معرفة الإنسان بقيمته وحقه في السعادة، كلما قلت حساسيته تجاه آراء الآخرين، فالناس يتكلمون على أيّ حال، فلا تجعل أصواتهم تعلو على صوت قلبك».
«فالزواج ليس واجباً اجتماعياً، بل علاقة إنسانية تكمّل الروح، وتخلق مساحة للأمان والمشاركة، ومن يختاره عن وعي، يجني ثماره، ومن يتخلى عنه باقتناع يعيش بسلام، فهو ليس غاية، بل وسيلة للتكامل مع شخص آخر، إذا حضر الوقت والشخص المناسب. وهنا يكمن الوعي في الاختيار، فالتقدم في العمر لا يُقلل من قيمة التمنّي، أو المعايير التي يطمح إليها الإنسان، بل قد يزيد من نضج الاختيار لديه، فالمهم هُنا أن نكون مرنين في الفهم، وليس في القبول بأي شيء. فالحياة لا تعطينا طوال الوقت حرية أن نختار مواصفات النصف الآخر، لكنها قد تقدم لنا شريكاً يدهشنا بجماله الروحي، حتى لو لم يطابق القائمة كاملة، فالتمسك بالجوهر أهم من التشبث بالمثالية. ومن خلال تجربتي، وجدت أن النساء الناضجات، فكراً وسناً، هنّ الأكثر قدرة على الاختيار الحقيقي، فالمواصفات قد تتغيّر، لكن مع النضج تصبح الأولويات أعمق، إذ نبحث عن روح تُطمئننا لا مظهر يُبهرنا، ونصيحتي لكل امرأة تأخرت في تلك الخطوة، أن الزواج في هذا العمر ليس لأجل الارتباط فقط، بل من أجل رغبة في بداية جديدة أكثر نضجاً، فلا تدعي كلام من حولك يمنعك من خوض تجربة قد تكون الأجمل في حياتك».