هل لا تزال المستشفيات الحديثة تترك مجالاً للبعد الإنساني؟ والبعد الإنساني في الرعاية الصحية هو «العناية بالآخر»، فهل يتم نسيانه بحجة التطور التقني والقيود الاجتماعية، والإدارية؟
هذا الكتاب «العناية بالآخر»، من تأليف ماري دي هينيزيل، يلفت الاهتمام إلى أن الرعاية الصحية ليست مسألة «شطارة طبيب» أو تقدم تقني فقط، بل تتضمن، في جوهرها، مكانة خاصة لإنسانية الآخر، سواء أكان مريضاً، أم معالجاً لهذا المريض.
في قلب الأقسام الاستشفائية الأشدّ قسوة وصعوبة ثمة أناس يسهرون على إبقاء شعلة الإنسانية حية، ويقومون على أفضل وجه بهذا الواجب المقدس الذي يحتاج إليه العالم أجمع. وسواء أكان المرء معالِجاً، أو مريضاً، فلكلّ دوره في بناء نظام صحي أكثر إنسانية. يحمل جميعنا نقطة ضعف في ما يتعلق بالمرض، ولا يدركها بعض الأطباء، والمعالجون، والممرضون، إلا عندما يصيرون هم في موقع المريض فتتجذّر في داخلهم ثقافة الرعاية الصحية بكونها اهتماماً حقيقياً بالآخر.
لكن ثمة عوامل كثيرة أخرى يمكن أن تسهم في تنميتها، وهي الاعتراف بمشاعر المعالجين، وإعداد الأطباء، ورؤساء الأقسام ليأخذوا في الاعتبار العلاقة الإنسانية، والتفكير الأخلاقي.
الاعتراف بمشاعر المعالجين
لا يختار المرء عن طريق الصدفة أن يدخل حقل العناية الصحية، وأن يرعى المرضى وكبار السّن، ومن هم على شفير الموت. لكن مهما كانت الدوافع الواعية، أو غير الواعية، فهي متصلة اتصالاً وثيقاً بتاريخ الشخص المعني. وتأتي المواجهة مع آلام الآخر لتوقظ بالضرورة أصداء شخصية وحميمة، لذا فإن إنكار مشاعر المعالجين والممرضين سيكون خطأً جسيماً. وعدم الاعتراف بحقهم في أن يضطربوا وينفعلوا بعمق أمام وضع معيّن يعني إنكار جزء من إنسانيتهم. فهل المطلوب ممرضين ومعالجين ينفذون الأوامر من دون تفكير، ولا إحساس، ويكتفون بدور تقني؟ وهل من الممكن للإنسان أن يعمل من دون أن يشعر؟ وأن يُحسن العمل من دون أن يُحسن الحضور؟ فمن يملك نفساً يملك بالضرورة حالات نفسية.
ثمة روابط تنسج بين المريض والمعالج، لا سيما في الأقسام التي تستدعي بقاء مطولاً في المستشفى. ومن الطبيعي أن يتأثر المعالج حينما يرى المريض متألماً وأن يحزن عليه إذا ما توفي، فهذا أمر طبيعي بالكامل، وإنساني. ومن الهام الاعتراف بشكل ذاتي، ومن قبل المؤسسة بوجود هذا البعد العاطفي، فإنكاره لا يحمي منه، وبدلاً من هذا يجب المساعدة على التعاطي معه.
الناحية الإنسانية في إعداد الأطباء
يقول الطبيب بول ميليز في كتابه بعنوان «ما أؤمن به» ما يلي: «كل يوم كنت أشعر بوخز في الضمير. كان لديّ انطباع أني قمت بعملي بالشكل الصحيح من الناحية التقنية، لكن كنت أشعر بأني قد خنت معنى هذه المهنة، وأني لم أعرف مرضاي حقيقة. لقد درست حالات، ولم أعالج بشراً».
إنه لتواضع كبير من قبل هذا الطبيب العظيم الذي يعترف بأن البعد الإنساني قد فاته.
تُعِد كليات الطب علماء وأطباء ممتازين، بيد أن الإعداد من ناحية العلاقات ألإنسانية شبه غائب. وفي حين أن طلاب الطب سيواجهون، كأطباء، قلق المرضى، وألمهم، وخوفهم من المرض والموت، إلا أنهم لا يتلقون أيّ إعداد نفسي أو أخلاقي مناسب، يحضّرهم لهذا النوع من المواجهات. هل من الطبيعي أن يبقى من اختار أن يرعى الآخرين ويطبّبهم من دون أيّ مقدرة على سماع الألم، والاهتمام بالبعد الإنساني الذي يقع على عاتقه؟
هذا لأن هذه المسؤولية هي محور مهن الرعاية والمساعدة، فضعف المريض وتبعيته يجبران على هذا النوع من المقاربة، ورأسمال الثقة الذي يضعه بين أيدي الأطباء يعطيهم سلطة هائلة يجب أن يتعلموا كيف يمارسونها، حتى لا يسيئوا استعمالها.
ولن تُحل المشكلة بإدخال دروس علم نفس وعلوم إنسانية وأخلاقية، هنا وهناك، حتى نُعدّ الأطباء ليكونوا أشخاصاً مسؤولين، ولكن بإدخال روحية مختلفة تماماً على التعليم الذي يتلقاه طلاب الطب. من الهام جداً أن يتم إعداد هؤلاء الطلاب حتى يصيروا إنسانيين بعمق، ويعرفوا النفس الإنسانية كما يعرفون عمليات استقلاب الحوامض الأمينية. يجب تحضيرهم لهذه المواجهة مع العذاب الإنساني، ليس بطريقة نظرية وفكرية حسب، ولكن بطريقة عملية، وعاطفية كذلك.
وقد أشار الطبيب دوني لابايل في كتابه «عاصفة في المستشفى»، إلى أن إِعداد الأطباء لا يتناسب مع واقع مهنتهم. فثمة الكثير من المفاهيم التي لا لزوم لها، والقليل من التفكير في مسألة الألم الذي تولده الأمراض والعلاجات، ومسألة مرافقة المرضى في آخر حياتهم، وتعلم لغة الحذر والاحترام إزاء المريض، وأسرته.
وينصح بأن يقوم كل طبيب مرشح لتسلم منصب ما، بدورة إلزامية ليكتشف المؤسسة التي سيعمل فيها، ولقاء الفريق الإداري والعاملين الآخرين، كذلك أن يقوم كل مدير مستشفى بالانخراط في مختلف الأقسام، والعمل فيها لفترة معينة. ويركز لابايل على ضرورة أن يضع المرء نفسه في مكان الآخر حتى يفهم مصاعبه، ويتبادل الرأي معه، ويتقرب منه.
إذا كنا نريد أطباء يحسنون التعاطي مع البعد الإنساني لمرضاهم، يجب أن يتم إعداد طلاب الطب على كيفية إقامة حوارات مع المرضى، ويجب إرساء بنى تدعم الطبيب نفسه في التعاطي مع الناحية العاطفية في مهنته.
مسؤولية رؤساء الأقسام
يؤكد المعالجون والمرضى قائلين إنه إذا كان رئيس القسم والمسؤولون فاقدي الحس الإنساني فلا بد لمناخ القسم العام أن يتأثر، ولا بد أن يشعر المرضى بأنهم لا يعاملون بطريقة إنسانية.
ويقع على عاتق مسؤولي الأقسام أولاً مسؤولية إبراز أهمية العلاقة الإنسانية في مجال العناية الصحية. فهؤلاء المسؤولون هم من يشيعون هذه الطريقة في العمل، وهم من يشكلون المثال الأعلى. فحين يبدي المسؤول احتراماً لفريقه، يحترم الفريق المرضى، وحين يتعامل بطريقة فوقية يكون تعامل القسم مع المرضى بالطريقة ذاتها.
ويكفي رئيس القسم، عند استقباله للأطباء المتمرنين وبدءاً بزيارات المرضى الأولى، أن يفرض عليهم قواعد السلوك الجيد، ويكفي المسؤول عن الممرضين أن يقول لفريقه: «هنا نتصرف بهذه الطريقة! ونبدي اهتماماً بالعلاقات الإنسانية»، حتى تتغير روحية فريق العمل.
ولطالما خضعت إدارة فرق العمل إلى النمط الأبوي والسلطوي، لكن المناخ العام اليوم قد تغير، والفِرق التي تعمل بشكل جيد هي الفرق التي اعتمدت منهج المشاركة. فكلام كل عضو في الفريق له أهميته، ويفترض أن يسهم الجميع في اتخاذ القرارات.
لكن للأسف، نادرون هم رؤساء الأقسام الذين يديرون فرقهم بهذه الطريقة، ومن المعلوم أن غياب التواصل بين المعالجين والمرضى الذي كثيراً ما تتم الشكوى منه، هو انعكاس دقيق لحالة العلاقات القائمة ضمن فريق العمل. فالفريق الذي يجتمع ويتبادل الكلام، ويحكي عن مصاعبه، هو فريق سيكون قادراً على الإصغاء إلى مرضاه. وعلى العكس، حين يتلاقى المعالجون في الممرات ولا يتبادلون الكلام، وحين تسود قاعدة «الكل يكتفي بنفسه»، من المؤكد أن المرضى سيشكون عدم وجود العلاقة الإنسانية التي يحتاجون إليها.
وبما أن المستشفى يعتبر نفسه مؤسسة، لماذا لا يضم في طاقمه تقنيات المجموعات التي تستعين بها المؤسسات منذ زمن طويل، من أجل تحسين طريقة التواصل بين أفرادها؟ المطلوب هو تبادل المعلومات حول ما يفعله كل واحد من الفريق وتبادل الحديث حول المرضى. فمساعد الممرض الذي تحدث مع المريض خلال العناية به، يملك على وجه التأكيد أشياء مهمة يقولها للطبيب حول حالة المريض النفسية.
قد يقال إن كل هذه المعلومات مدونة خطياً في ملف العناية، ويكفي بالتالي قراءتها! بيد أن التبادل الكلامي يظلّ بلا منازع، فنحن ننقل بالكلام المحكي أكثر بكثير مما تقوله الكلمات. ننقل الشحنة العاطفية التي لا يحملها التقرير المكتوب في الملف. ففي اللقاءات ضمن الاجتماعات تنسج علاقة بين العاملين تسهل عمل الجميع.
