بعد 13 عاماً أعلن الأطباء نجاح التجربة.. زراعة في الدماغ تنقذ براندي من الاكتئاب المزمن

في عام 2001 خضعت هذه المرأة الأمريكية، براندي إليس، لعملية زراعة عميقة في الدماغ. استهدفت العملية منطقة حساسة من قشرة الفص الجبهي، والهدف منها علاج ضائقة نفسية شديدة. هل تتخيلون أن الطب بات قادراً على نقلك من الكآبة إلى الفرح والفرفشة؟
الحقيقة أن هذه التجربة ليست جديدة، حيث خضعت براندي إليس للعملية قبل 13 عاماً، أي حين كانت تبلغ من العمر 30 عاماً. وقد انتظر العلماء كل تلك المدة قبل التأكد من نجاح العملية ومن عدم حصول انتكاسة للمريضة. مع هذا فإن هذه التقنية لا تزال تجريبية.
«كيف تشعرين اليوم يا سيدتي؟» تسأل طبيبة الأعصاب هيلين مايبرج مريضتها.. وتجيب براندي: «أشعر بأنني أخف وزناً». رأس المريضة الثلاثينية ملفوف بوشاح أزرق وهي مستلقية على سرير العمليات. إنها تتلعثم في الكلام بحثاً عن الوصف الدقيق لإحساسها. لكن الطبيبة تلح في السؤال عن المقصود بأنها أخف وزناً، ويأتي الجواب خجولاً: «أشعر وكأن الهواء يتسلل إلى جسدي».
جرى تسجيل هذه المحادثة في خريف 2011 في غرفة العمليات بمستشفى جامعة إيموري في ولاية أتلانتا الأمريكية. كان الفريق الطبي يتابع بانتظام المرأة التي كانت لا تزال تحت تأثير التخدير الموضعي، أثناء عملية زراعة دماغية في قشرة الفص الجبهي تُسمى «CG25» أي أن براندي كانت نصف مخدرة، تسمع الأسئلة وتجيب عنها خلال تلك التجربة السريرية الرائدة، أملاً في تحسين حالة الاكتئاب الحاد الذي كان ملازماً لها. لقد جربت أكثر من 20 علاجاً على مدار 4 سنوات. واستغرقت العملية قرابة 6 ساعات، أجراها جراح الأعصاب روبرت جروس بتنظيم من الدكتورة هيلين مايبرج.
جرى خلال العملية تركيب دائرة داخلية، إضافة إلى قطب كهربائي مرتبط ببطارية موضوعة تحت الجلد، بالقرب من الإبط الأيمن. وتم تصميم هذا النظام المتكامل لتوفير تحفيز كهربائي عالي التردد بشكل مستمر، ما يُعطل المنطقة التي تم تشخيصها بأنها تعاني خللاً وظيفياً.

براندي تروي تجربتها في باريس
مر 13 عاماً، وها نحن في باريس، قبيل انطلاق الألعاب الأولمبية 2024. صار عمر براندي 48 عاماً، وهي ما زالت تحمل في جمجمتها الغرسة الكهربائية. لقد جاءت إلى فرنسا للتحدث عن تجربتها في مؤتمر جامعي للتكنولوجيا العصبية. حضرت بملابس أنيقة وتسريحة شعر جميلة، وأوضحت أنها لم تعد تشعر بالاكتئاب، وأن نجاح العملية كان أسعد يوم في حياتها، وأضافت: «أنا إنسان آلي، مثل أولئك الذين رأيناهم في المسلسلات التلفزيونية القديمة وقد تحولوا إلى أعضاء آلية». وكان من الواضح أنها تشير إلى فيلم «رجل الستة ملايين دولار» أو فيلم «الفك المفترس».
تخرّجت براندي في الجامعة، وهي تحمل شهادة ماجستير في إدارة الأعمال. لقد أصبحت مديرة تنفيذية في شركة تأمين دولية، تُخفي بمهارة حياة يومية ليست بالبساطة التي يتصورها زملاؤها في العمل. وبينما كان الحاضرون يطرحون عليها شتى الأسئلة فإنها كانت تميل إلى الرد بعبارة: «لا أعرف». ثم راحت تتصفح نصاً كتبته على شاشة هاتفها الذكي، سجلت فيه قصتها الخاصة: تواريخها الرئيسية، وعلاجاتها، والجرعات التي تلقتها... حتى أن هاتفها يحتوي على مقاطع فيديو لعمليتها، تقول «بين ربيع 2008 وخريف العام نفسه، أي قبل عامين من عملية الزرع، خضعتُ لـ24 جلسة علاج بالصدمات الكهربائية، وقد تركت أثرها فيّ، حيث فقدت جزءاً من ذاكرتي».

دفعة إضافية للحياة
لم تفكر براندي إليس يوماً في أن تصبح «cyborg». والسايبورج اختصار لكلمة «الكائن السيبراني»، وهو مصطلح صاغه في ستينات القرن الماضي باحثان من نيويورك: مانفريد كلاينز وناثان س. كلاين. ويشير المصطلح إلى هجينة كائن حي مرتبط بأطراف صناعية. فالسايبورج هو إنسان مُطعّم بالميكانيكا والإلكترونيات.
كان من الصعب جداً ألا تصبح براندي مثل ذلك الكائن السيبراني. فمع تفاقم اكتئابها بين عامي 2008 و2010، عانت المرأة الشابة سوء فهم صديقاتها وأصدقائها وحتى من المشتغلين بالمهن الطبية، وتبين: «عندما حاولتُ البحث عن أطباء جدد وعرضتُ عليهم تاريخ علاجي الطويل المسجل بدقة على هاتفي أخبروني بأنني لا أبدو مكتئبة. في الواقع، كنتُ مهتمة للغاية بشأن طلب المساعدة. وبينما كنت وحيدةً أمام شاشة حاسوبي أبحث عن معلومات حول الاكتئاب المقاوم للعلاج، اكتشفت الموقع الأمريكي الرسمي الذي يشرح التجارب السريرية الجارية ويدعو المرضى لتقديم طلباتهم إذا رغبوا في المشاركة فيها».
تقدمت براندي بطلبها الأول للخضوع لعملية زرع في الدماغ لعلاج الاكتئاب الحاد، لكن الطلب لم يُسفر عن أي نتائج. وصلتها النتيجة في أسوأ وقت ممكن، وهي تتذكر قائلةً: «أخبرني المعالج بأنه لا شيء سينجح، وأن عليّ أن أترك الأمر لعناية السماء. كان عقلي يحاول التأقلم، لكنني كنتُ أعاني كثيراً. لهذا قمت بوضع خطة سرية لإنهاء كل شيء بعد ليلة رأس السنة 2011. نعم، فكرت في الانتحار». ثم جاء حدثٌ مفاجئ جعلها تصرف النظر عن تلك الفكرة اليائسة. لقد أصيبت قطتها ديزل بسرطانٍ واسع الانتشار، فقررت تأجيل قرارها لبضعة أسابيع. وخلال تلك الفترة، قدمت طلباً ثانياً وجاءها جواب إيجابي من أتلانتا هذه المرة.
منذ ذلك الحين، اعتبرت براندي إليس وجودها على قيد الحياة إضافة مدهشة إلى عمرها وفرصة لا تريد إهدارها، خصوصاً أنها تشعر بأنها تلعب في الوقت بدل الضائع. لقد كُتبت لها حياة جديدة. وأي حياة؟ إن عليها أن تعيد شحن بطاريتها المتصلة بالزرعة الكهربائية مرتين أسبوعياً، وذلك بأن تضع الشاحن تحت عظمة الترقوة لمدة ساعة ونصف الساعة في كل مرة، وتقول: «في أحد الأيام، وبدون سبب، شعرت بالاكتئاب مجدداً، واستمر الأمر لمدة ثلاثة أسابيع. واكتشفت أن البطارية لم تعد تعمل».
في المستشفى، اكتشف الأطباء مشكلة بسيطة في الدائرة الكهربائية. لقد تعطلت شبكة براندي العصبية مجدداً، ما أثار لديها شعوراً بعدم الارتياح لأنها لم تعد تُعالج عصبياً بالكهرباء. وتعترف قائلة بأن هذا التفسير أفادها كثيراً فهدأت نفسيتها «منذ التجربة السريرية التي شاركت فيها، والتي أُجريت عام 2011على 28 شخصاً، بينهم 21 مريضاً مصابون بالاكتئاب و7 مرضى بالاضطراب الثنائي القطب، ما زلت تحت المتابعة السنوية من قِبل طبيب في مستشفى إيموري، على الرغم من أن المستشفى لم يكن مُلزماً رسمياً بذلك. كانت بادرة إنسانية وأخلاقية ومنقذة للحياة». ومع ذلك، تخشى براندي أنها عند تقاعدها وفقدان التأمين الصحي الخاص ستكون مجبرة على الانتقال إلى الخارج، لأن تكلفة الغرسات وصيانتها باهظة في الولايات المتحدة.

صوت الآخرين
كيف تغيرت براندي بعد 13 عاماً من العلاج بالزراعة؟ تُجيب بعد لحظة تأمل: «أشعر بتعاطف أكبر مع أولئك الذين يعانون، ولم أعد أخشى أو أخجل من الحديث عن الصحة النفسية، سواءً كانت تخصني أو تخص الآخرين». هناك مثلاً كارول، وهي طاهية سابقة من أتلانتا، نجحت هي الأخرى في الخضوع لغرسة دماغ، وهي معجبة برفيقتها غرفة المستشفى، براندي، التي عاشت تجربة مذهلة وصارت ناطقة بلسان باقي المرضى.
في السنوات الأخيرة، أصبحت براندي إليس شخصية تُدعى إلى المؤتمرات العلمية للتحدث عن تجاربها وتجارب مرضى غرسات الدماغ الذين تتلقى منهم شهادات عديدة. ويُقدَّر عدد الذين يعانون هذا النوع من الاكتئاب بأكثر من نصف مليون شخص حول العالم. كما أن هناك أمراضاً أخرى مثل مرض باركينسون الذي يستفيد فيه المرضى من تقنية التحفيز العميق للدماغ، وهي تقنية فرنسية تم ابتكارها في مدينة جرينوبل عام 1987. هذا إضافة إلى مشاركين في التجارب السريرية لتحفيز مناطق أخرى من الدماغ لعلاج أشكال حادة من اضطراب الوسواس القهري.
يروي جابرييل لازارو- مونيوز، الأستاذ المساعد في الطب النفسي وأخصائي الأخلاقيات الحيوية في كلية الطب بجامعة هارفارد، أنه عندما استمع إلى براندي في مؤتمر للمعاهد الوطنية للصحة عام 2022، خطرت له فكرة دعوَتِها إلى مختبره. ومنذ ذلك الحين، باتت تشارك في عمل الفريق عبر مؤتمرات الفيديو، لمدة ساعة كل يوم جمعة، لشرح وجهة نظر المرضى بشكل أفضل. أما طبيبتها هيلين مايبرج التي تعمل حالياً في مستشفى «ماونت سيناي» في نيويورك، فلا تخفي تأثرها برحلة مريضتها السابقة، وتضيف: «من الرائع أن نشاهد العلم يُترجم إلى واقع ملموس. فرغم كل التقلبات، أتاحت الغرسة لبراندي تحسين حالتها واستعادة عافيتها».
مع هذا، لا تزال تقنية الزرع العميق في مرحلة التجارب السريرية لعلاج الاكتئاب الحاد، حيث تُحسّن هيلين مايبرج باستمرار أساليبها في دراسات جديدة. وتؤكد هذه الرائدة: «الزرع قفزة نحو المجهول»، وتضيف، مستخدمةً استعارةً من عالم السيارات: «نحن الأطباء نأخذ سيارة سقطت في وادٍ ونضع حاجزاً يمنعها من الخروج عن الطريق مرة أخرى. فقد يكون هناك عيب في السيارة، أو أن العيب في قيادة السائق ولا بد من تحسين أدائه».