
تجذب قرية الشيخ عبادة، الواقعة على تخوم مدينة ملوي، في محافظة المنيا، عشاق السياحة والآثار والتاريخ، بما تضمه من مزارات تاريخية، تروي جانباً من تاريخ مصر القديمة، وتقدم، بالدليل القاطع، كيف سبق المصريون القدماء العالم في عبادة الله الأحد.


يُجمع كثير من المؤرخين القدامى على أن تلك المنطقة، التي تقع الآن على حدود بوابة الصعيد المصري، هي المنطقة التي خرج منها سحَرَة فرعون في القصة القرآنية المعروفة، لمواجهة نبي الله موسي، وأن هؤلاء السحرة الذين أعلنوا إيمانهم في ساعة واحدة، أمام جبروت الفرعون، كانوا من أبناء قرية أنصنا التي يطلق عليها اليوم قرية «الشيخ عبادة»، والتي يقول شيخ المؤرخين تقي الدين المقريزي، إنها القرية التي خرجت منها أم المؤمنين مارية القبطية.

تقع قرية الشيخ عبادة، على تخوم مدينة العمارنة القديمة، التي كان يطلق عليها في الزمان الغابر اسم أخت آتون، التي تعني بالهيروغليفية القديمة «مدينة التوحيد»، وهي المدينة التي بناها الملك أخناتون، في ثلاث سنوات فقط، وحوّلها إلى عاصمة مصر الثقافية والإدارية، في الأسرة الثامنة عشرة، ومنها انطلقت دعوته لعقيدة التوحيد للإله الواحد الأحد. وقد كانت تلك القرية في الزمان الغابر تسمي «بيسا»، قبل أن يرد ذكرها في العديد من النصوص القديمة، وتحديداً في عام 130 ميلادية، عندما أنشأ الإمبراطور هادريان الروماني، ملك مصر في ذلك الوقت، قبراً لغلامه وكان يدعي أنطونيوس، بعدما غرق في مياه النيل، وانشأ حوله حدائق غنّاء، دفعت العديد من الأعيان من سكان تلك القرية إلى بناء مساكنهم حول القبر، ليطلق عليها تالياً اسم «أنتنيوبوليس»، تخليداً لذكرى غلام الملك هادريان، قبل أن يتحول في وقت لاحق إلى «أنصنا»، بعد دخول الفتح الإسلامي إلى مصر.


كانت «أنصنا» القديمة قرية صغيرة تقع على الضفة الشرقية للنيل، قبالة المنطقة المعروفة باسم الأشمونين، لكنها مع مرور الوقت تحوّلت إلى مدينة كبيرة، حتى أنها أصبحت عاصمة مصر العليا، في وقت من الأوقات، بعدما شيّد رمسيس الثاني معبده المنيف فوق أراضيها، ما جعلها تحظى في العصر المسيحي بأهمية كبرى، إذ بنيت على أراضيها العديد من الأديرة والكنائس الكبيرة التي تروي العديد من أطلالها الباقية حكايات دامية عن عصر الاضطهاد الذي لقيه المسيحيون المصريون على يد الإمبراطور الروماني ديوكلتيانوس، بعدما أمر بهدم الكنائس، وحرق ما تتضمنه من آلاف الكتب، بل وطرد المسيحيين الذين كانوا يشغلون المناصب الرفيعة في البلاد، وقد بلغ العنت به حدّ حرمان العبيد من الحرية، إن أصرّوا على الاستمرار في اعتناق المسيحية، وسجن رؤساء الكنائس، وتعذيبهم، بقصد قسرهم على جحد الإيمان.


وتشير الأطلال الباقية على حدود قرية الشيخ عبادة إلى السور العظيم الذي كان يحيط بحصن كبير، كان بدوره يتولى الدفاع عن القرية في الزمان البعيد. وقد كان ارتفاع هذا السور، حسبما يبدو من آثاره الباقية، نحو 25 متراً، ويقول الخبير الأثري عبد الله إبراهيم موسى «كانت القرية ترتبط بالمنطقة المقابلة لها، والمعروفة باسم الأشمونين، بنفق كبير، وكان يوجد فيها مقياس فرعي لمياه النيل، محاط بأعمدة من الصوان الأحمر، ما يشير إلى الأهمية الكبيرة التي حظيت بها في تلك العصور السحيقة. ويكفي تلك القرية أنها تجاور قرية حفن، وهي واحدة من القرى الصغيرة التابعة لها، وقد شهدت تلك القرية، حسبما يذهب كثير من المؤرخين، مولد السيدة مارية القبطية، زوجة الرسول الكريم، وأختها سيرين، وقد أهداهما المقوقس ملك لمصر للنبي، صلى الله عليه وسلّم، فتزوجها بعد إسلامها، بينما تزوج الصحابي حسان بن ثابت، رضي الله عنه، أختها سيرين».


كانت مارية وسيرين ابنتين لأحد وجهاء القبط في ذاك الزمان، يدعى شمعون، وقد أهدى شمعون مارية وأختها إلى المقوقس حاكم مصر، الذي أهداهما بدوره إلى النبي محمد، صلّى الله عليه وسلم، عندما تلقّى رسالته التي يدعوه فيها إلى الإسلام، وقد حملها إليه، حسبما تروى كتب الأثر، الصحابي حاطب بن أبي بلتعة، فاستقبله المقوقس استقبالاً رائعاً، وردّ الرسالة إلى الرسول، وفي ما ورد في نصها أنه قال: «إلى محمد بن عبدالله، من عظيم القبط، سلام عليك، لقد أكرمت رسولك وقرأت كتابكم وفهمت ما فيه، وما ذكرت وما تدعو إليه، وأرسلت لكم هدايا فيها جاريتان لهما مكانتهما بين القبط، مع بعض الهدايا الأخرى، مثل ألف مثقال ذهب، وعشرون ثوباً من أعظم الأقمشة، والعسل، والدواب»، وقد عاد حاطب إلى مكة بعدما عرض الإسلام على الفتاتين في الطريق فأسلمتا، وقبِل الرسول الهدية، واختار مارية زوجة له بعد إسلامها، وأهدى حسان بن ثابت سيرين أختها، فأنجبت مارية للرسول ابنه إبراهيم، لتصبح، بعد أن تزوجها، إحدى أمّهات المؤمنين.


تطل قرية الشيخ عبادة على منطقة تونا الجبل، التي تعد واحدة من أهم المناطق الأثرية بمصر، حيث ظلت لعقود طويلة تمثل وجهة يحج إليها قدماء المصريين، نظراً لوجود جبانة جحوتي بها، وهي المقبرة التي تضم رمزي «الايبس والبابون» المقدسين لدى المصري القديم، كما يعد جحوتي واحداً من أقدم الآلهة المصرية القديمة، وقد كان مركز عبادته في قرية «خيمنو»، أو مدينة الثمانية المعروفة حاليا باسم الأشمونين، ما يعني أن تونا الجبل كانت هي المقر المقدس للإله جحوتى، إله الحكمة والمعرفة، وإله القمر والكتابة في مصر القديمة، وقد كان المصريون القدماء يتدفقون على مقبرته في مواسم معيّنة خلال العام، محمّلين بالقرابين المختلفة، قاصدين التبرّك والتقرّب وتقديم الهدايا لجحوتى.

ويرجع كثير من الباحثين سبب تسمية القرية بـ«الشيخ عبادة» إلى الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، وتقول الرواية إنه دخل القرية بعد الفتح الإسلامي لمصر باحثاً عن بيت السيدة مارية، ليبني على أطلاله أكبر وأول مسجد في القرية، ويعفي أهلها من الخراج إكراماً لأم المؤمنين.
* تصوير – أحمد شاكر
اقرأ أيضاً: الأقصر وأسوان.. سحر الفراعنة يجذب السياح إلى صعيد مصر