تروي آثار منطقة تل العمارنة، جنوب محافظة المنيا، في الصعيد المصري، قصصاً مثيرة عن ميلاد أول مدينة للموحّدين في مصر، أنشئت على يد الفرعون الأشهر أخناتون لعبادة الإله الواحد، وتقدّم عبر ما تبقى من نقوشها التي كشفت عنها البعثات الأثرية المتعاقبة، والتي تعرف بأناشيد أخناتون، نصوصاً ملهمة.
منذ اكتشافها في نهايات القرن الثامن عشر، ومنطقة تل العمارنة تكشف كل فترة عن أسرار جديدة، ليس في ما يتعلق بالدور الديني والسياسي الكبير الذي لعبته في مصر القديمة فقط، وإنما أيضاً في شخصية مؤسسها الفرعون المصري الشهير أخناتون، ذلك الرجل الذي يبدو في تماثيله القليلة التي عثر عليها على مدار قرن، أقرب ما يكون إلى شخصية أسطورية، بملامح وجهه، وبنيته الضعيفة، التي تشي بإنسان مرهف الحس والمشاعر، ميّال إلى التأمل، حيث لعبت تربيته، حسبما تذهب العديد من الدراسات التاريخية، دوراً في تشكيل شخصيته على هذا النحو.
فأخناتون من ناحية، لم يكن الابن البِكر لأبيه أمنحوتب الثالث من زوجته الملكة تي، ومن ناحية أخرى، لم يحصل كأمير شاب على التربية التقليدية التي كان يخضع لها ولي العهد في تلك الفترة، والتي تؤهله لقيادة إمبراطورية كبيرة مترامية الأطراف، وقد لعبت تلك التربية دوراً كبيراً، حسبما تقول الباحثة دعاء وجدي، في تشكيل شخصية الأمير الشاب، ودفعته لأن يتبع قلبه، فيكفر بكل الآلهة التي عرفتها مصر القديمة، ويعلن إيمانه بـ«آتون»، صاحب القوة الكامنة المتجسدة في قرص الشمس، التي لا يراها الإنسان، لكن يشعر بها، ويدرك عظمة أثرها في استمرارية الحياة.
أعلن أخناتون عن ديانته الجديدة بعد أن تولّى حكم مصر، فشرع في تنفيذ حزمة من الإصلاحات الدينية والإدارية، واتخذ من طيبة عاصمة للبلاد، وقد تسببت دعوته بإنكار الآلهة المتعددة، والإيمان بالإله الواحد، بشعور كهَنة معابد آمون بخطر الدعوة الجديدة عليهم، إذ كانت كفيلة وحدها بحرمانهم من جميع امتيازاتهم المادية، فشرعوا في مقاومة الملك، ووضع العراقيل أمامه. وقد أدرك الملك الشاب وقتها ما يُحاك له من مؤامرات، فأعلن الحرب على آمون، وباقي الآلهة التي اتصلت به، مثل موت، ونخبت، حتى أوزوريس، إله العالم الآخر.
شهدت مصر خلال فترة حكم أخناتون، موجة من الرخاء والرفاهية، إذ إنه رغم اهتمامه بعبادة الإله الواحد آتون، لم يهمل شؤون البلاد، وقد كان من الذكاء، أنه ظل محتفظاً في البداية بكبار موظفي الدولة، هؤلاء الذين خدموا مع أبيه أمنحوتب الثالث، وقد كان ذلك وحده سبباً كافياً لأن يعلنوا اعتناقهم ديانة آتون.
وتشير العديد من البرديّات التي تسجل ملامح تلك الفترة، أن مصر ظلت تنعم بالعديد من الخيرات، فمزارع العنب في الدلتا راحت ترسل نبيذها إلى تل العمارنة، ومخازن القصور الملكية، والمعابد امتلأت بكل الخيرات التي جاءت من مختلف أقاليم مصر، وواحاتها، بالتزامن مع أغلاق أخناتون للعديد من المعابد الخاصة بالآلهة الأخرى، ومصادرة ممتلكاتها، بل وتسريح كهنتها، ما لعب دوراً كبيراً في إثارة حنق كهنة آمون، الذين اطلقوا على أخناتون ومن تبع ديانته الجديدة، والذين كان يبلغ عددهم في ذلك الوقت نحو ثمانين ألفاً، صفة الملحدين.
أعلن أخناتون هجرته من طيبة إلى إقليم هرموبوليس في الشمال، في بداية العام السادس من حكمه، ليشرع في إقامة مدينته الجديدة التي أطلق عليها اسم «آخت آتون»، بمنطقة تل العمارنة، في صحراء مدينة المنيا.
وتشير العديد من الدراسات التاريخية إلى أن أخناتون اختار تلك المنطقة الواقعة على الشاطئ الشرقي للنيل بين مدينتي المنيا وأسيوط، لإنشاء مدينته الجديدة، لأنها إلى جانب ما تتميز به من إطلالة ساحرة على النيل، تتميز أيضاً بأنها «أرض نظيفة»، لم تخصّ في يوم أي من المعبودات القديمة، فلم تطأها ديانة من قبل، وقد كان ذلك وحده سبباً كافيا لأن يتخذها أخناتون عاصمة لدولته، فانتقل إليها بعد اكتمال بنائها، بصحبة عائلته، ورجال بلاطه، وكبار موظفيه، وأقسم يميناً سطّره على لوحات الحدود، بأنه لن يغادرها أبداً، في خطوة كانت تستهدف في حقيقة الأمر قطع كل الصلات بينه واتباعه، ومعبودات طيبة القديمة.
شيد اخناتون في تل العمارنة مدينة الموحدين الجديدة، فأقام على أرضها المعابد والقصور، وشيّد مقبرته الملكية، إلى جانب مجموعة من المقابر المنحوتة في صخر الجبل الشرقي للمدينة، لكبار رجال دولته، وهي المقابر المعروفة حالياً باسم «مقابر الأشراف»، واتّخذ من مدينته الجديدة نقطة انطلاق لنشر حركته الدينية، التي استمرت لسنوات، قبل أن تأفل بسرعة عجيبة بعد رحيله، فقد كان كثير من اتباعه، ينظرون إليه باعتباره حلقة الوصل بينهم وبين الإله المعبود، وربما لأن كثيرين منهم من لم يؤمنوا على نحو صادق بتلك العقيدة، التي خالفت ما اعتنقه الآباء والأجداد، رغم أنها سلّمت بشريعة توحيدية، على النهج الهليوبوليتاني، فاتخذت إلها واحداً، يتألق في الأفق بمظهر النور، وتكمن قوته في ضياء الشمس.
وضع أخناتون بنفسه مخطط مدينته الجديدة، حسبما تذهب كثير من البرديات، فحدد أماكن معابدها وقصورها، واتجاهات شوارعها، ويوضح مجسم للصورة الأصلية التي كانت عليها مدينة «آخت آتون»، كيف كانت شوارعها متّسعة، وتضم الكثير من الميادين التي أحاطت بها مبانٍ صغيرة، وأبنية ذات أعمدة، وبحيرات صناعية محاطة بجزر صغيرة. ومن العجب أن أطلال تلك البحيرات لا تزال باقية في تل العمارنة، تشهد على طبيعة العمارة الفريدة في تلك المدينة الساحرة، قبل أن تغطي الرمال المتراكمة بقايا تلك البحيرات والحدائق، ومبنى حفظ المراسلات الخارجية الذي أنشأه اخناتون في المدينة، ليضم تلك الودائع النادرة، وهي عبارة عن لوحات صغيرة من الطين المجفف، تضم المراسلات الدولية بين البلاط الملكي في مصر القديمة، وبعض البلدان القريبة.
وقد كتبت تلك المراسلات بالكتابة المسمارية، التي كانت تُعد لغة المراسلات الدولية في تلك الفترة من التاريخ، حيث كان يقوم على كتابة تلك الألواح مجموعة من الكتبة الكنعانيين والمصريين الذين يعرفون تلك اللغة، وتلقي تلك الرسائل، التي يبلغ مجموعها 337 رسالة، الضوء على جانب كبير من العلاقات الدبلوماسية بين مصر، وعدد من دول آسيا في ذلك العصر، على نحو ما يظهر في المراسلات المتبادلة بين أخناتون وأمراء سوريا العليا، وفلسطين، وبابل، وغيرهم من الموالين لمصر، حيث تبين المراسلات التزام مدن مثل صور وبيبلوس القديمتين، بطاعة الملك المصري.
نادت ديانة أخناتون حسبما تشير العديد من المشاهد المصورة على معبده، بحب الطبيعة وعناصرها، وتجلّت فلسفتها في معبد آتون، ومعماره الذي يختلف بشكل كبير عن باقي المعابد القديمة، إذ لم يبن كمكان مظلم مسقوف، وإنما تميّز ببهوه المكشوف للسماء، حيث يأتي الإله بنفسه لزيارته في مواعيد محددة، فيغمره بالنور والضياء. وقد تميزت ديانة آتون، بأن أخناتون كان هو نفسه المشرع، والكاهن الأعظم للإله، حسبما تشير البرديات القديمة، التي لم تسجل ولو تمثالاً واحد للإله، وإنما ظل يرمز له في كل النقوش بشعاع الشمس، على ما يضمه ذلك من معانٍ روحية، تجسد قيم العدالة والخير والحب والسعادة المطلقة.
علّم أخناتون شعبه، حسبما يذكر في نقوشه، جمال الإيمان بعقيدة آتون الجديدة، وهو ما تجسد في فنون مدينة تل العمارنة، التي عمدت دائماً إلى تصوير الحقيقة، فلم تجنح مثل غيرها من الفنون التي سبقتها، لتركيز الاهتمام على تصوير الملك، والعائلة المالكة، في أجمل الأشكال، بل صورتهم، حسبما تقول الباحثة دعاء وجدي، في طابع أقرب إلى التشويه الخلقي، بهدف التعبير عن فكرة بعينها، على نحو يؤكد أن الواقعية والرمزية كانتا أحد أبرز السمات التي تميزت بها فنون عصر العمارنة.
* تصوير: أحمد شاكر