10 يوليو 2025

د. هدى محيي تكتب: من بياض العينين إلى سواد القلب

أستاذة وباحثة جامعية

مجلة كل الأسرة

قرأت مؤخراً معلومة صغيرة لفت انتباهي فيها ما تستدعيه من سلوكيات وآثار. تقول المعلومة إن الإنسان، على ما يبدو، هو المخلوق الرئيسي الوحيد الذي يملك بياضاً مرئياً في عينيه. وهذا البياض هو الذي يسمح لنا بتحديد الوجهة التي ينظر نحوها شخص ما حتى لو كان على بعد عشرات الأمتار منا. يكفي مثلاً أن ننظر إلى عيون المدعوين على المائدة حتى نعرف أيَّ طعام هو الأشهى. وإذا رأينا في الشارع الناس ينظرون في اتجاه ما يستحيل علينا ألا ننظر معهم في الاتجاه ذاته.

فنحن مدفوعون بحكم تركيبتنا إلى التنبه لما ينظر إليه الآخرون ويرغبون فيه، لأن هذا هو مصدر أساسي من مصادر رغباتنا الشخصية. وقد فهم المروجون والمعلنون هذا الأمر جيداً، لذا فإنهم لا يكفّون عن عرض أشخاص يرغبون في أشياء ويحصلون عليها من أجل دفعنا لشراء الشيء ذاته.

كل هذا لأن الإنسان يكره أن يكون لديه أقل ممَّا لدى الآخرين. وقد أثبت علماء الاجتماع أن المال لا يجعل المرء أكثر سعادة، بل ما يجعله أكثر سعادة هو أن يملك أكثر من الآخرين. فنحن سنكون سعداء براتب متوسط إذا كان مَن حولنا يكسب أقل منا، وسنكون شديدي التعاسة إذا كانوا يكسبون أكثر منا. لهذا السبب لا يشكل ارتفاع مستوى المعيشة مصدر سعادة لأصحابه في البلدان المتقدمة، بل على العكس، لأن الثروة الاقتصادية والمالية في بلد ما تعني زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين يحققون ثروات كبيرة من حولنا. وهذا من شأنه أن يضاعف شكوانا ويحملنا على الإحساس بالفشل، ما يترتب عنه ارتفاع كبير في حالات الاكتئاب في البلدان الأكثر ثراءً كسويسرا، وألمانيا، واليابان، والولايات المتحدة.

والمشكلة هي أننا لا نستطيع إلا القليل حيال هذه الحالة، لأنه من الصعب جداً أن ننجح في الكف عن الغيرة والحسد. فهذا الشعور هو الأكثر رسوخاً في جهازنا العصبي، وحين ينشط نشعر كما لو أنه قد أصابنا «مسٌّ» من الغيرة، وكما لو أن شخصاً آخر قد تملّكنا. والأشخاص الأكثر توازناً يسعون بقدراتهم وجهدهم لتحقيق ما يحسدون الآخرين عليه، أمّا الأقل توازناً فيصيرون كالموتورين في سعيهم للاستيلاء على ما يملكه الآخرون. وما لم ينجحوا في ذلك يعملون على تدمير الممتلكات المرغوب فيها، كمن يجرح بمفتاحه السيارة الأنيقة والباذخة المركونة في الشارع لأنه لا يستطيع الحصول عليها. وكذا المرأة التي يخونها زوجها تود لو أنها تستطيع أن تشوِّه غريمتها حتى تسلبها الجمال الذي لا تملكه والذي يراه زوجها فيها.

وكم من جريمة ارتكبت بدافع الغيرة والحسد واعتبرتها المحاكم أسباباً تخفيفية، لأن من تتملكه الغيرة لا يعود يشعر أنه هو نفسه، بل شخص آخر يتحرك في داخله، ومتى عاد إلى رشده كره نفسه وما ارتكبت يداه.

من بياض العينين إلى سواد القلب، خطوة واحدة حذار أن نخطوها.