09 يونيو 2025

جبل القرنة.. كنوز الحضارة والتاريخ في مصر وأغنى جبال العالم

محرر متعاون - مكتب القاهرة

مجلة كل الأسرة

يمتد جبل القرنة بالقرب من شاطئ النيل في البر الغربي لمدينة الأقصر، على مساحة تصل إلى نحو خمسة كيلومترات، لكنه على امتداده الرهيف داخل صحراء الأقصر القاحلة، وطبيعة صخورها القاسية، يصنف ضمن قائمة أغنى الجبال في العالم.

مجلة كل الأسرة

يضم جبل القرنة أكثر من 11 معبداً فرعونياً، شيدت في عصور أبرز ملوك وملكات مصر القديمة، إلى جانب أكثر من 850 مقبرة فرعونية متنوعة، من بينها مقابر وادي الملوك الشهيرة، التي تضم رفات العشرات من ملوك مصر الفرعونية على مرّ العصور.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

لا يزال الجبل، القابع على ضفاف النيل من الناحية الغربية للأقصر، يحتفظ بالعديد من الأسرار التي لم تكشف بعد، مثلما يحفل بالعديد من الحكايات التي يتداولها سكانه، جيلاً بعد جيل، منذ لجأوا إلى سكن هذا الجبل العجيب، في نهايات القرن الثامن عشر، هرباً من بطش الغزاة إبان الحملة الفرنسية على مصر. فقد أقاموا بين صخوره القاسية عدداً من القرى التي لا تزال آثارها باقية حتى اليوم، تروي للزائرين قصة هروب سكان نجوع القرنة من بطش الفرنسيين، إلى بطن جبلهم المقدس في عام 1850، قبل أن ينخرط بعضهم في العمل مع بعثات الاستكشافات الأثرية تالياً، وعلى رأسهم عائلة عبد الرسول التي يرجع إليها كثير من الباحثين الفضل في اكتشاف مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون.

مجلة كل الأسرة

تجاور المنازل الباقية في قرية القرنة القديمة أشهر المقابر الفرعونية التي عرفها العالم في العصر الحديث، وهي مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون، وتتداول الأجيال المتعاقبة في تلك القرية الصغيرة الواقعة على تخوم الجبل الأشهر، قصة جدهم الكبير عبد الرسول، وكيف أسهم في اكتشاف المقبرة الذهبية، ليحظى المستكشف البريطاني هيوارد كارتر بالشهرة العريضة لنفسه، متجاهلاً الدور الكبير الذي لعبه الجد الأكبر للعائلة في الكشف عن أشهر المقابر التي عثر عليها في العصر الحديث.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

على مدار عقود طويلة، تصدّرت ملامح الحياة في قرى جبل القرنة العديد من الكتب التي حررها الرحالة، وعلماء الآثار الغربيون، الذين توافدوا على المنطقة لدراستها بعد إعلان هيوراد كارتر عن كشفه المثير، وعلى رأسهم الرحالة الإنجليزية الشهيرة كارولين سيمبسون، التي أرّخت لقرى القرنة على نحو بديع، فكانت سبباً في دفع كثير من علماء الآثار الغربيين إلى سكن جبل القرنة، وبناء منازل لهم على تخومه، يستقبلون فيها عائلاتهم، وأصدقاءهم، وزوارهم من شتى أنحاء العالم، وعلى رأسهم القنصل البريطاني هنري سولت، الذي قام ببناء منزل لواحد من أهم رجاله في قرية القرنة القديمة، وهو جيوفاني أثاناس، المعروف بـ«يني»، الذي بني منزله على شكل قلعة صغيرة محاطة بمجموعة من الأبنية، في مواجهة واحد من أشهر المزارات في الجبل، وهو ضريح الشيخ عثمان، المبني من الطوب اللبن.

مجلة كل الأسرة

ويقول عالم الآثار الشهير زاهي حواس، إن هذا المنزل، الذي بني في نهايات القرن الثامن عشر، آل لعائلة الشيخ عثمان، قبل أن تتهدم أجزاء كثيرة منه، ويتحول إلى أطلال، شأنه في ذلك شأن منزل آخر، أنشأه تاجر الآثار الإيطالي بيثيني، في منطقة دراع أبو النجا، والذي لا تزال آثاره باقية إلى جوار أطلال الدير القبطي الذي شيد في تلك المنطقة منذ عقود بعيدة، بالناحية الجنوبية الشرقية لضريح الشيخ عبد.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

يتصدر ضريح الشيخ عبد قمّة أحد النتوءات العالية في جبل القرنة غرب الأقصر، في إطلالة ساحرة على منطقة آثار الدير البحري، بينما تتناثر حول الضريح بسيط البناء والمعمار، عشرات من مقابر النبلاء، والتي يقدر عددها بنحو 146 مقبرة، تتناثر في المنطقة المعروفة باسم الجبانة، أو مقابر الأشراف في القرنة. وتنقسم جبانة الشيخ عبد إلى قسمين، أحدهما يقع في القسم العلوي للجبانة على مقربة من الضريح، ويضم مقابر كبار رجال الدولة في مصر القديمة، إلى جانب كهنة المعابد، فيما يضم القسم السفلي للجبانة، مقابر الموظفين والأشخاص الأقل شأناً في الطبقات الاجتماعية، في مصر القديمة.

مجلة كل الأسرة

وتحفل العشرات من تلك المقابر بالعديد من النقوش التي تتضمن نصوصاً من كتاب الموتى، الذي يصنف ضمن أشهر الكتب القديمة في الحضارة الفرعونية، على ما يضمه من نصوص تجسد مشاهد من الرحلة المقدسة إلى العالم الآخر، حسب العقيدة الفرعونية القديمة. ويقول باحثون في التراث الفرعوني، إن جميع النقوش التي تنتشر على جدران تلك المقابر تشير إلى أنها ترجع إلى عصر الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، في مصر القديمة، حيث تتضمن تلك النقوش الوظائف التي شغلها صاحب المقبرة، إلى جانب العديد من النقوش الدينية والجنائزية، التي تبدو واضحة في حجرات الدفن والممرات المؤدية إلى المقابر.

مجلة كل الأسرة

لا يقتصر سحر جبل القرنة على ما يضمه من عشرات المقابر القديمة، وإنما بما يضمه أيضاً من أطلال لمعابد وقصور منيفة بنيت في تلك المنطقة في الزمان الغابر، ومن أشهرها قصر أمنحتب، إلى جانب معبد هابو الذي يصنف ضمن أجمل المعابد التي بنيت في مصر القديمة، فضلاً عن معبد الملك أمنحتب الثالث، انتهاء بمعبد الدير البحري الشهير الذي بنته الملكة حتشبسوت، بالقرب من مقابر وادي الملوك، ووادي الملكات، ومقابر العساسيف.

مجلة كل الأسرة

وتعد مقبرة رمسيس الثالث، الموجودة في حضن جبل القرنة، معجزة فنية مذهلة في بنائها، ومعمارها الفريد، إذ تم بناء تلك المقبرة على عمق يصل إلى 180 متراً في قلب الجبل، بطريقة فريدة تعكس مدى براعة علوم الهندسة في مصر القديمة، فضلاً عمّا تضمه من نقوش تروي قصة تلك الحضارة العظيمة التي تجلت على البر الغربي للأقصر.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

لا تكتمل زيارة جبل القرنة من دون زيارة ساحة الطيب، التي تأسست في بواكير القرن الماضي على يد الشيخ الطيب الحساني، الجد الأكبر للإمام الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، حيث تعد الساحة ملتقى العديد من علماء الفقه والشريعة من مختلف دول العالم الإسلامي، إلى جانب المئات، وربما الآلاف من البسطاء الذين يتوافدون عليها في مواعيد محددة كل عام، لتلقّي علوم الشريعة.

مجلة كل الأسرة

تحتضن الساحة جبل القرنة في حنو بالغ، بالقرب من مقابر وادي الملوك والملكات ومعبد حتشبسوت، وتضم في جنباتها مكتبة إسلامية عريقة، وداراً كبيرة لتحفيظ القرآن الكريم، إلى جانب مركز طبي كبير، وتقام فيها يومياً العديد من الأنشطة، الدينية والثقافية، إلى جانب حلقات الذكر والإنشاد الديني، التي يشارك فيها المئات من مختلف محافظات الصعيد، فضلاً عن تنظيم العديد من جلسات الصلح بين القبائل والعائلات التي تلوذ بالساحة عند وقوع المظالم، وعندما تدب الخلافات، باعتبارها المركز الرئيس لجلسات الصلح العرفية، خصوصاً في محافظتي الأقصر وقناً. ولا يتوقف دور الساحة عند هذا الحد، بل تحولت إلى مركز لنشر الدعوة الإسلامية، إذ تستقبل يومياً، عشرات من السائحين الأجانب الراغبين معرفة المزيد عن الإسلام، وعلومه، ما جعلها تشهد خلال العقود الماضية وقائع إشهار إسلام العديد من هؤلاء السياح، بحضور الإمام الأكبر.

اقرأ أيضاً: الأقصر وأسوان.. سحر الفراعنة يجذب السياح إلى صعيد مصر

* تصوير: أحمد شاكر