04 نوفمبر 2025

إنعام كجه جي تكتب: مهنة أمي

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

مجلة كل الأسرة

أنا من جيل رأى النور أواسط القرن الماضي. وكان الشائع بيننا أن أمهاتنا ربّات بيوت، ليس بينهن من تشتغل بمهنة من المهن التي صرنا نراها بعد ذلك. ولعل من النادر أن نسمع رفيقة من رفيقات المدرسة تقول إن أمها رسامة مثلاً، أو حتى خياطة. لا أحد يسأل عن عمل الأم، لأن الطبيعي هو أنها تعمل في رعاية بيتها، وزوجها، وتربية أطفالها.

مع هذا، لم تكن بيننا واحدة لم تستند إلى إصرار والدتها وتضحيتها، وتمسّكها بأن تتعلم ابنتها، ولا تنقطع عن الدراسة. كأن الأم ترى في ابنتها الفرصة التي لم تتح لها. وإذا حدث وأن غابت عنّا واحدة من زميلاتنا، لأنها ستتزوج وتترك المدرسة، فإن ذلك اليوم يكون حزيناً، سواء لها، أو للطالبات من صديقاتها.

اليوم، صار من الشائع جداً أن تقول التلميذة إن والدتها طبيبة، أو مهندسة، أو موظفة في بنك، أو أستاذة جامعية. بل ظهر لدى البنات نوع من الرغبة في تخطّي الحد الذي بلغته الأمهات. فإذا كانت الوالدة قد حصلت على الليسانس فإن البنت، وبتشجيع من والديها، تسعى لنيل الماجستير، وحتى الدكتوراه.

تجول في رأسي كل هذه الخواطر لأنني أتابع تقريراً فرنسياً عن شابات يشعرن بالغيرة لأن مِهن أمهاتهنّ أهم من العمل الذي يقمن به. كأن تكون الأم مديرة لمؤسسة صناعية في حين تعمل الابنة موظفة استقبال في فندق. وفي هذا التقرير، تقول واحدة من اللواتي تطوعن للحديث، إنها باتت تكره التفاف الأسرة حول مائدة العشاء، لأن الحديث كله يدور حول عمل والدتها، وجهودها في دفع مؤسستها إلى مزيد من النجاحات.

لفتت العبارة انتباهي لأن المتحدثة هي آديل، الممثلة الفرنسية الشابة المعروفة والحائزة على جائزة «سيزار» السينمائية المرموقة. ورغم شهرتها، وموهبتها، ومهنتها التي تتمناها آلاف الفتيات، فإنها ترى نفسها معزولة في العشاءات العائلية، لا أحد يلتفت إليها، أو يسألها عن فيلمها الجديد، في حين ينشغل الجميع باستعراض ما تقوم به الأم، أو الجهد الذي يبذله الأخ في عمله. هل الأم جراحة أعصاب مثلاً، والأخ عالم ذرة؟

لا، الأم ممرضة والأخ سبّاك. إنهما من البشر العاديين الذين يواجهون مشكلات الحياة الحقيقة في كل لحظة وكل يوم، لا وقت لهؤلاء الناس للدخول للسينما، وللتحليق مع خيالات الأفلام. ثم إن تذكرة السينما صارت أغلى من قدرة عامل وممرضة.

هل نقول إن شكوى الممثلة آديل تدخل في باب البطر والبحث عن مشكلة، حيث لا توجد مشكلة؟ فمن المعروف أن الشكوى، والتذمر، والتأفف المستمر، هي عادات متأصلة في هذا الشعب. فلا يكون الفرنسي فرنسياً إذا لم ينفخ، ويتأفف. كان يمكن أن أتعاطف معها لولا أنها تطرح مشكلتها كأنها الصخرة التي سيتحطم عليها العالم. وهي تشعر بالاضطهاد، ولا أشك في أنها ستجري وتبكي على أريكة طبيب نفسي ينقذها من مهنة والدتها.