
في سعي الأهل لتقديم الأفضل لأطفالهم، يخلط بعض الآباء والأمهات بين الحنان الذي يبني شخصية واثقة، والدلال الذي يمكن أن يضعف القدرة على الصبر والمواجهة. فالحب الحقيقي لا يعني الرضوخ لكل طلب، بل يعني وجود علاقة تقوم على الدعم والاحتواء، ضمن حدود واضحة وثابتة.

في إطار هذا الطرح، تجيب أخصائية التربية وتعديل السلوك فيروز محمد الغنما، عن تساؤلات الكثير من الآباء والأمّهات: هل أنا أظهر الحنان لطفلي وأحرص عليه؟ أم أنني دلّلته أكثر من اللازم؟ هل تلبية طلباته دائماً تعني أنني أعبّر عن محبتي، أم أنني بذلك أضره؟
«الحقيقة، أن الفرق بين الحنان والدلال بسيط في شكله، لكنه عميق في أثره في شخصية الطفل. فالحنان يعني الحب، والاهتمام، والاحتواء، والجلوس مع الطفل، والاستماع إليه، وتشجيعه حين يشعر بالخوف أو التعب. أما الدلال، فهو يعني تلبية كل رغبات الطفل من دون تفكير، والاستجابة لبكائه، أو غضبه، حتى لا يزعل فقط، حتى لو كان ما يطلبه غير مناسب، أو غير منطقي».
وتكشف «حين نمنح أطفالنا الحنان، نمنحهم الأمان، وهذا أمر ضروري وأساسي لنموّهم النفسي. لكن عندما نلبي كل جميع رغباتهم من دون حدود، فإننا بذلك نضعف قدرتهم على التحمّل، ونعوّدهم على أن الحياة دائماً يجب أن تسير كما يشاؤون، وهذا أمر غير صحي. فالطفل في سنواته الأولى، من الولادة وحتى سن الثلاث سنوات تقريباً، يحتاج إلى أكبر قدر من الحنان، الجسدي والعاطفي (الحضن، اللمسة، النظرة، والصوت الحنون)، ليتشكل لديه شعور الأمان والانتماء. لكن مع تقدم العمر، من الهام أن تتغير طريقة التعبير عن الحنان لتناسب المرحلة. على سبيل المثال، في عمر خمس أو ست سنوات، من الجيد أن نعبّر عن حبنا بأفعال مثل (اللعب المشترك، مشاركته الحديث، وتشجيعه على المحاولة حتى لو فشل)، فالحب لا يعني أن نفعل كل شيء مكانه، بل أن نقف بجانبه، ونسمح له بأن يجرّب، ويتعلّم».

كيف نظهر الحب والحزم في الوقت نفسه؟
لكن كيف يمكننا إظهار الحنان للطفل في مختلف المراحل العمرية، مع تعليمه القواعد والحدود في الوقت نفسه، توضح «من الهام أن نبدأ في عمر الأربع أو الخمس سنوات، على تعليمه القواعد والحدود. الحنان لا يتوقف، لكن يصبح أكثر وعياً، كأن نقول له «أنا أحبك، لذلك لا أسمح لك أن تؤذي نفسك»، أو «أنا أفهم أنك منزعج، لكن لا يمكننا شراء كل ما نريد دائماً»، ويمكن تجاوز الأمر، إن شعر بالحزن، بأن نحتضنه ونواسيه، لكن في الوقت نفسه نثبت على موقفنا. كذلك يتغير السلوك عندما يكبر الطفل ويدخل المدرسة، أو يصبح في سن المراهقة، بأن يكون الحنان في شكل حوار، وتفهّم، واحترام للمشاعر والمساحة، مع الحفاظ على القواعد التي تنظم السلوك. على سبيل المثال أن نقول «أعرف أنك متعب من الدراسة، لكن عليك أن تنهي واجبك ثم ترتاح».
الدلال يصبح أكثر ضرراً عندما نلبي كل طلبات الطفل من دون قيد أو شرط، أو عندما نمنعه من أن يشعر بالإحباط، ونرضخ له لأنه بكى، أو أصر فقط. وعندما يعتاد الطفل هذا السلوك من الأهل يواجه صعوبة في تحمّل الرفض، أو التعامل مع خيبات الأمل، أو ضبط مشاعره، ويمكن أن يصبح عدوانياً، أو عنيداً عند كل موقف لا يعجبه. بينما يكبر الطفل الذي ينشأ في بيئة فيها حب واهتمام وانضباط وثبات، واثقاً بنفسه، يعرف ما له وما عليه، يمكنه أن يتفاعل مع الناس بشكل متوازن. على سبيل المثال، الطفل الذي اعتاد أن يسمع كلمة «لا» أحياناً، من دون أن يكافأ على الصراخ، سيكون أكثر قدرة على الانتظار، وفهم أن ليس كل ما يطلبه يجب أن يحصل عليه.

هل الطفل يستغل مشاعر والديه؟
هذا يضعنا أمام تساؤل هام، هل يمكن للطفل أن يتلاعب بمشاعر والديه، وإلى أي مدى؟ توضح الأخصائية التربوية «ذكاء الطفل يقوده إلى تجربة طرق مختلفة تقوده إلى ما يريد، فإذا اكتشف أن البكاء، أو الإلحاح يمكن أن يؤثر في قرار والديه، بالتأكيد يحاول أن يكرر هذا السلوك مرّات عدّة، من دون كل أو ملل. وهذا لا يعني أنه طفل سيئ، بل لأنه يتعلم من تجاربه. لذلك، من الهام أن نكون واضحين وثابتين على مواقفنا، كما علينا أن نحتوي مشاعره، من دون أن نتأثر كل مرة يصرخ، أو يبكي. فالثبات هام لتعليم الطفل أن هناك قواعد لا تتغير بالعاطفة، كما أن كلمة «لا» ضرورية، لكن يمكن قولها بأسلوب حنون، من دون صراخ أو قسوة. مثلاً، يمكن أن نقول «أعرف أنك غاضب لأنك تريد هذه اللعبة، لكن اليوم لا يمكننا شراؤها»، أو «أعرف أنك تريد أن تسهر، لكن غداً لديك مدرسة، ويجب أن تنام مبكراً». وتعليم الوالدين الطفل أن رفضهم لا يعني قلّة الحب، وأن هناك قواعد تنظم الحياة، يجعله أكثر قدرة على التفاهم مع الآخرين في المستقبل. كذلك، يساعد منح الطفل بدائل، مثلاً أن نقول له «ما رأيك أن تختار لعبة نلعبها معاً»، يخفف من التوتر، ويجعله أكثر تقبلاً للرفض».
وتلفت إلى أهمية توحيد رأي الوالدين «من الهام أن يتفقا، فلا يقول أحدهما «نعم»، بينما الآخر يقول «لا»، لأن ذلك يمنح الطفل الفرصة للضغط بشكل أكبر، كما يضعف ثقته بالقواعد، كما يجب أن نمدح سلوكه الجيد، لا أن ننتبه للأخطاء فقط. فالتربية ليست صراعاً، بل علاقة قائمة على الحب والتوجيه».
وتختم فيروز الغنما «الطفل بحاجة إلى الحب، لكنه أيضاً بحاجة إلى من يرشده، ويضع له الحدود. فالتربية السليمة أن نحب أبناءنا ونحتويهم، وفي الوقت نفسه نعلّمهم الصح والخطأ، ونتعامل معهم بثبات واحترام».