
منذ سنواته الأولى يبدأ الطفل بمقارنة نفسه بالآخرين، مدفوعاً بفضوله، ورغبته في الحصول على الاهتمام والتقدير. وبينما يُعدّ الميل إلى المقارنة جزءاً طبيعياً من نمو الطفل، تبقى للطريقة التي توجه بها الأسرة والمدرسة هذا السلوك، الدور الحاسم في تعزيز ثقة الطفل بنفسه، أو إضعافها.
ولكن السؤال الأهم: كيف يمكن أن نحوّل المقارنة من عبء يثقل كاهل الطفل، إلى إلى أداة تعزز ثقته بنفسه؟
كثيراً ما يلجأ الأهل والمعلمون إلى مقارنة الطفل بغيره، ظناً منهم أن هذا الأسلوب يمكن أن يكون وسيلة تحفيز، وتشجيع على الاجتهاد، والتطور، فنسمع عبارات مثل: «انظر فلان ماذا عمل»، أو «لماذا لا تكون متفوّقاً مثل ابن خالتك؟». وعلى الرغم من النية الحسنة وراء هذا السلوك، إلا أن الطريقة المستخدمة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، فتتحوّل المقارنة، من دون قصد، إلى شرارة تولّد شعوراً بالأذى، ومن هنا تبدأ القصة.
تكشف أخصائية التربية وتعديل السلوك، فيروز محمد الغنما «يبدأ الطفل بمقارنة نفسه بالآخرين عادة بين سنّ الرابعة والسادسة، مع بداية تشكّل وعيه الذاتي، وقدرته على ملاحظة الفروقات بينه وبين مَن حوله. وتزداد هذه النزعة وضوحاً عند دخوله المدرسة، حيث يبدأ بملاحظة من هو «الأذكى»، أو«الأسرع»، أو«الأكثر شعبية». وعلى الرغم من أن الميل إلى المقارنة جزء طبيعي من النمو الاجتماعي والمعرفي، إلا أنه في جوهره سلوك مكتسب يتأثر بالبيئة المحيطة، سواء من خلال كلمات الأهل، أو سلوك المعلمين، أو المواقف اليومية التي يتعرض لها الطفل. وتبقى الطريقة التي يعامل بها هذا الميل الطبيعي هي التي تحدّد إن كانت هذه المقارنة ستبنى بشكل صحي، أو مؤذٍ».

أنواع المقارنات التي يتعرض لها الطفل
يتعرض الطفل لمجموعة من المقارنات يمكن أن تؤثر في ثقته بنفسه، وإضعاف صورته الذاتية، ويمكن إيجازها بـ:
- المقارنة الأكاديمية: مثل مقارنة علاماته بزملائه أو إخوته.
- المقارنة السلوكية: كأن يسمع «شوف أخوك كيف مؤدب».
- المقارنة الجسدية: يلاحظ فرق الشكل، أو الطول، أو الوزن.
- المقارنة في المهارات: مثل التفوق في الرياضة، أو الرسم، أو تكوين الصداقات.
- المقارنة المادية: عندما يرى أطفالاً آخرين يملكون ألعاباً، أو أدوات أكثر، أو أعلى سعراً.
- المقارنة في الحب والاهتمام: عندما يشعر الطفل بأن الأهل أو المعلمين يفضلون غيره.

عن دور الأسرة والمدرسة في الحد من المقارنات وتعزيز تقدير الطفل لذاته، تكشف فيروز الغنما «يلعب كلّ من الأسرة والمدرسة دوراً محورياً في ترسيخ الصورة الذاتية لدى الطفل، فهما الجهتان الأقرب لتأثيره النفسي والسلوكي. وقد تسهم بعض الممارسات اليومية، من دون قصد، في تغذية مشاعر المقارنة. على سبيل المثال، عندما يقال للطفل «لاحظ أخاك كيف انتهى من دروسه»، فإن الرسالة الضمنية تشعره بأنه أقل، ما قد يثير الغيرة، أو الإحباط. في المقابل، عندما يركز الأهل على تقدم الطفل مقارنة بنفسه، محتفين بنجاحه وتفوقه الشخصي، من دون ربطه بغيره، فإنهم يزرعون في داخله شعوراً بالقيمة والثقة. وهذا الأمر نفسه ينطبق في المدرسة، فالمعلم الذي يفضل طالباً معيّناً، أو يبرز نجاحه على حساب الآخرين، يعزز الشعور بالمقارنة والتمييز. بينما المعلم الواعي يسعى إلى توزيع اهتمامه بعدالة، ويظهر لكل طفل أن له نقاط قوة تميّزه، بالتالي، يسهم في بناء بيئة تعليمية صحية، وآمنة نفسياً».
وعن تأثير المقارنة في نظرة الطفل إلى نفسه وثقته بقدراته، تشير فيروز الغنما «تلعب المقارنة دوراً محورياً في تشكيل ثقة الطفل بنفسه، ويعتمد تأثيرها بشكل كبير على طريقتها، وسياقها. فالمقارنة السلبية، مثل قول «لماذا لا تكون مثل أختك؟» تزرع في الطفل شعوراً بأن قيمته مرتبطة بإنجازات الآخرين، ما يجعله يرى نفسه من خلال عيون غيره، ويبدأ بالتشكيك بقدراته. هذا النوع من المقارنة قد يؤدي إلى ضعف احترام الذات، أو تنمية مشاعر الغيرة، أو حتى الانسحاب، والخوف من خوض التجارب الجديدة. في المقابل، تُعد المقارنة الإيجابية أداة فعالة لتعزيز الثقة، فهي تتركز على تطور الطفل مقارنة بنفسه، مثل قول بعض الكلمات «انظر كيف كتابتك أسرع من الأسبوع الماضي؟». هذا الأسلوب يشجع الطفل على ملاحظة تقدمه الشخصي، ويمنحه شعوراً بالإنجاز، من دون أن يشعر بالإحباط، أو النقص أمام الآخرين».

وتوجز أخصائية التربية «جزء أساسي من المقارنة الإيجابية يتمثل في تعليم الطفل أن الفشل والتجربة مراحل طبيعية في مسار التعلم، ولا تعد مؤشراً على ضعف دائم أو نقص في القدرات، بل إن ترسيخ فكرة أن كل طفل يتميّز بصفاته الخاصة، وأن اختلافهم لا يعني تفوق أحد على الآخر بل تكاملهم معاً، يسهم في بناء شخصية واثقة، ومتزنة. وهنا يظهر بوضوح الدور المحوري للأسرة والمدرسة في حماية الطفل من الوقوع في فخ المقارنات الضارّة. وتبدأ هذه الحماية من تبنّي نظرة فردية لكل طفل، تقوم على احترام الفروقات، وتقدير التميّز الشخصي. في البيت، يفترض أن يشجع الأهل على الجهد بدل النتيجة، ويحتفوا بالمحاولة لا بالكمال، باستخدام عبارات مثل «أنا فخور إنك حاولت مرة ثانية»، بدلاً من مقارنات مثل «أخوك فهمها من أول مرة». كذلك، من المهم أن يغرس في الطفل وعي أن الفشل ليس نهاية، بل فرصة للتعلم والتطوّر. أما في المدرسة، فالمعلم يتحمل مسؤولية خلق بيئة تشجيعية لا تعتمد على الترتيب، أو التصنيف، بل تبرز نقاط القوة المختلفة لكل طفل، سواء في التحصيل الأكاديمي، أو المهارات الإبداعية، أو القيم الاجتماعية. وبهذا الأسلوب يشعر كل طفل بأنه مقدّر ويملك مكانة خاصة تستحق الاحترام».