للمرة الأولى في تاريخ مسابقات الجمال الفرنسية، تفوز باللقب شابة تقصّ شعرها قصيراً. وقد اعتاد الجمهور أن تكون الملكة ذات شعر طويل «على الخدود يهفهف ويرجع يطير». لذلك انهالت عليها آلاف التعليقات السلبية عبر مواقع التواصل التي باتت الصحيفة الأكثر وصولاً إلى القراء، والمتابعين.
لم تتركز الانتقادات على التسريحة الغامقة القصيرة فحسب، بل شملت القدّ النحيل للمرشحة الفائزة، إيف جيل، ذات العشرين ربيعاً. وقد وصفها بعضهم بأنها ضامرة، وصبيانية المظهر، وقال آخرون إنها تبدو مصابة بمرض الأنوركسيا، أي فقدان الشهية. بينما أقسم آخرون أنها فازت لأن لجنة التحكيم كانت من النساء، ولو كان هناك رجال بين المحكّمين لما منحوها أصواتهم.
شتائم وانتقادات بسبب تسريحة شعر
ومنذ انتخابها في مدينة ديجون، قبل أسبوع، لم تتوقف المواقع عن ضخ التعليقات التي بلغ بعضها حدّ الشتائم. ولم يتقبل جمهور «النت» أن تكون أجمل امرأة في فرنسا خليطاً بمواصفاتها من الجنسين، وذات عظام وعضلات بارزة. هل هو التيار الذي يحاول فرض نفسه عالمياً حول الكائن «ملتبس الجنس»؟ وما زاد في الطين بلّة أنها لم تتوقف طوال الحفل عن الدفاع عن الشكل الذي اختارت الظهور فيه.
جاء في التعليقات: «هل هذه مِس فرانس، أم مستر فرانس؟». وكتب آخر: «اسمها إيف جيل، والحقيقة أنها جيل إيف». وتساءل ثالث: «أين المرأة فيها؟». وأطلقت عليها إحدى المعلقات لقب «الملكة من دون شعر». واتفق أغلب المنتقدين على أن ملكة جمال فرنسا لعام 2024 لا تتمتع بالقدر اللازم من الأنوثة.
وفي مقابلة مع قناة «إل سي إي» الإخبارية، دافعت الملكة القادمة من مقاطعة «نور بادكاليه» شمال فرنسا، عن نفسها بالقول إنها «ليست مجرد تسريحة». وأكدت الشابة التي تتخصص في الرياضيات، أن تاج الجمال يتضمن ثقافة المرشحة، وشخصيتها، وطموحها في الحياة. فلماذا تسببت التسريحة القصيرة بكل ذلك النفور والانزعاج، وتحولت من شأن خاص إلى موضوع لأحاديث الناس؟
ما المختلف في هذه «الملكة»؟
الجواب لدى إليزابيت دو فايدو، الأستاذة المتخصصة في تاريخ المجتمع، التي ترى أن هناك أمراً مثيراً في الموضوع، يتعلق بهذه الملكة بالذات، فهي مميزة، وتلفت النظر، بينما المتسابقات الأخريات متشابهات، وتضيف «عندما رأيتها على الشاشة قلت لنفسي هذه شابة مختلفة، ولها بعض ملامح النجمة الراحلة أودري هيبورن». ومن هنا جاءت ردّة الفعل على فوزها. ولابد من أن نعرف أن الشعر القصير لدى النساء كان يثير الإزعاج على مرّ العصور، وهو أمر يعود للتاريخ القديم، ونشأة البشرية. فقد احتل الشعر الطويل مكانة التاج النسائي بامتياز، وهو رمز للجاذبية، وللأنوثة القصوى. وهذا ينطبق على الشرق، مثلما ينطبق على الغرب.
وقد بلغ الأمر من جاذبية شعر المرأة، أن النساء في أوروبا كنّ يغطّين شعورهن في العصور الوسطى، من باب التواضع. وحتى في أيامنا هذه، فإن الشعر الطويل والجميل يتطلب عناية، وقد أصبح عنواناً للمرأة الناعمة التي تعتني بمظهرها. بل إن الشعر المعتنى به صار دليلاً على الصحة والعافية، ويشعر المرء بالرغبة في تمرير اليد بين خصلاته. وتكفي قراءة أشعار الفرنسي بودلير، لمعرفة الأثر الذي يتركه شعر المرأة في نفس الرجل. يقول إن الشعر بحر لا نهاية له يمكن للرجل أن يتيه فيه. هذا بالنسبة إلى الشاعر الفرنسي الشهير، أما بالنسبة إلى شاعرنا العربي المعاصر نزار قباني، فقد كتب: «يا شعرها في يدي... شلال عطر أسودِ». وهو أيضاً صاحب القصيدة الشهيرة عن الشعر القصير: «صغيرتي: إن عاتبوك يوماً كيف قصصت شعرك الحريرا / وكيف حطمت إناء طيبٍ من بعدما ربيته شهورا / وكان مثل الصيف في بلادي يوزع الظلال والعبيرا / قولي لهم: أنا قصصت شعري لأن من أحبه يحبه قصيرا».
ونعود إلى مساءلة المؤرخة الفرنسية: لماذا ما زال شعر المرأة المقصوص يعاني النظرة السلبية، رغم أننا في الألفية الثالثة وقد خرجت النساء لمنافسة الرجال في مجالات كثيرة؟ الجواب هو أن قص شعر المرأة ظل على مدى قرون، رديفاً للعقاب، أو للاضطرار. فقد جرت العادة على حلق شعر السجينات والمحكومات بالإعدام.. وأيضاً الخائنات. ومثلاً، عندما تحررت فرنسا من الاحتلال الألماني، هجمت الجماهير على النساء اللواتي أقمن علاقات مع جنود الاحتلال، وتم حلق رؤوسهن، والدوران بهنّ في الشوارع تحت وابل من الضربات والبصاق.
هذا في ما يخص العقاب، أما ما يخص الضرورة، فهناك النساء الفقيرات في آسيا اللواتي يضطررن لبيع شعورهن. وهي ظاهرة قائمة حتى اليوم، والكثير من «باروكات» الشعر تعتمد في نسيجها على تلك الخصلات الطبيعية. ومع حلول القرن العشرين، بدأت فئة من النساء بقص شعورهن للتعبير عن التحرّر، على غرار الممثلة بولير، أو الكاتبة كوليت. وكانت لتلك البادرة رسالتان: الأولى هي للتعبير عن الرغبة في الاستقلال، أو للإشارة إلى ميول مثلية. فمن تقصّ شعرها ترغب في النساء ولا تميل للرجال. وهذه النظرة الأخيرة ما زالت موجودة حتى يومنا هذا.
خلال زيارتها لقريتها بعد فوزها
معنى الأنوثة!
وفي ما يخص ملكة جمال فرنسا الجديدة، فإنها تدفع كل التهم عن نفسها، وتقول: «قد لا أتمتع بصدر بارز، لكنني لست أقل أنوثة من غيري». وبهذا فإن فوزها جاء ليفتح النقاش حول مفهوم الأنوثة، في زمن تسعى ملايين النساء فيه للخضوع لعمليات تكبير الصدور، وحقن المؤخرات بالدهون، ونفخ الخدود، والشفاه.
من الملاحظ أن نساء كثيرات يحاولن تغيير مظهرهن بعد الطلاق والانفصال عن الزوج، أو القطيعة مع الحبيب. وقد روت إحداهن لطبيبها النفسي أنها قصت شعرها لأن للخصلات ذاكرة، والشعر الطويل يذكّرها بأيام الوصال مع حبيب هجرها. فالمرأة، في مرحلة انكسار القلب، تسعى للتخلص من الماضي، ونسيان تفاصيله، ولقلب الصفحة، والولادة من جديد. وبما أن الشعر هو جزء من ذاكرة الجسد فإن قصّه وتغيير لونه يأتيان بمثابة حذف ما فات، وإعادة برمجة الروح على معطيات مختلفة. وبهذا يصبح الشعر سلاحاً، وليس من بقايا النكسة.
هل يكون فوز شابة قصيرة الشعر بتاج الجمال الفرنسي علامة على تطور في المفاهيم الاجتماعية؟ هناك من يرى أن إيف جيل فازت لأن اللجنة كانت مؤلفة من النساء بالكامل. لقد اخترن مواصفات جمالية أنثوية لا تخضع للذوق الرجالي. وقد رأت لجنة التحكيم في مظهرها وعضلاتها شعاراً للمرأة الجديدة التي تقف على النقيض من الدمية باربي. وعموماً، فإن اقتصار اللجنة على النساء أثار معارضة الكثيرين الذين وجدوا فيه تمييزاً يتنافى والمساواة التي تدعو لها فرنسا بين الجنسين.
اقرئي أيضاً: الكعكة المرتفعة تسريحة نجمات هوليوود المفضلة.. تعرّفي إلى أهم صيحاتها ونصائح الخبراء لتطبيقها