اعتدنا أن نرى صور الفتيات المؤثرات «أنفلوينسرز»، وهنّ منفوخات الشفاه، محقونات الخدود، فوق رموشهن طبقات من رموش إضافية. إلا هذه الفرنسية صاحبة المدوّنة المختلفة التي تتابعها مئات الآلاف من البنات والنساء. إن كارولين إيدا لا تتحرج من العمل عارضة للملابس الداخلية، بعد أن تجاوزت الستين، وهي لا تلجأ لإخفاء بصمات الزمن التي عبثت بوجهها، وجسدها.
هي من مواليد 1960. كانت في شبابها تعمل مع أبيها في شركة عائلية لبيع لوازم الرياضة. وبعد 20 عاماً من ذلك العمل، تركت الشركة وبدأت تعمل لحسابها الخاص في تسويق الحقائب النسائية. لكن الأقدار كانت تخبئ لها مصيراً مختلفاً. فقد دخلت المستشفى للعلاج من جلطة تسببت بتمدد وتمزق بعض الأوعية الدموية، ولما خرجت بعد أشهر، وجدت نفسها تقترب من الستين، وليس لديها عمل. فقررت أن تجعل من الفضاء الرقمي مجالاً لنشاطها. وكان قرارها غريباً، إذ بدأت تعرض الأزياء، وتعطي النصائح، وتقترح قطع الثياب، ومستحضرات الحفاظ على البشرة، وتجمع مئات المتابعات حول موقعها في وسائل التواصل.
كارولين إيدا.. جاذبية بلا مكياج
المئات سرعان ما صارت آلافاً. واكتسبت مصداقية لا يمكن التشكيك فيها. كانت تبلغ من العمر 57 عاماً، وتحتفظ بجاذبية جميلة، رغم أنها لا تستخدم سوى القليل من الأصباغ على وجهها، وغالباً ما تظهر بوجه مغسول ونظيف تماماً. وبفضل ذلك الموقع، تلقت دعوة للمشاركة في عروض أزياء الصالون الدولي للملابس الداخلية. وقد خاضت التحدي من دون تردد، وخلعت ثيابها لتقدم سراويل، ومشدات، وصدريات تناسب النساء الطبيعيات، أي العاملات، والموظفات، وربات البيوت، والأمهات اللواتي لا يشبهن الدمية «باربي»، ولا يمتلكن مقاييس الممثلات والعارضات.
كان صدرها هابطاً، ولبطنها طيّات عدة، وجلدها مبقعاً بآثار الزمن، لكنها ليست بدينة بشكل ميئوس منه، بل تستخدم قياس 44 في ثيابها. ورغم أن كثيراً من الشركات تتوقف عند مقاس 40، وتفضل التوجه للمراهقات والشابات العشرينيات، فقد فوجئت كارولين إيدا، بعروض من عدة علامات معروفة للثياب الداخلية، تطلبها للظهور في إعلاناتها. إن من يستهلك تلك المنتجات الغالية هن في الأغلب السيدات اللواتي تجاوزن الثلاثين، وبدأن مرحلة الحفاظ على مظهر أنثوي مستدام. وسرعان ما تحولت العارضة «العجوز»، إلى شخصية مؤثرة وناشطة في حركة «بودي بوزيتيف»، أي الجسم الإيجابي. ولها مدونتها المعروفة، وحسابها في «إنستغرام»، ومن خلال هذين الموقعين تقود حملات ضد التعتيم على النساء اللواتي يتجاوزن سن الخمسين. من قال إن على المرأة أن ترتدي الثياب الغامقة، وتسجن نفسها عند بلوغها سن الحكمة، وتموت قبل الموت؟
كارولين إيدا والحديث عن المسكوت عنه
تعطي كارولين نصائح حول التجميل واختيار الثياب المناسبة لكل قوام. هذا في المبدأ. أما سبب آلاف المتابعات فهو تطرقها إلى كل ما يخص المرأة الناضجة من مشكلات صحية، أو اجتماعية، أو وظيفية، أو جنسية. وهذه الأخيرة هي ما كان يدخل في نطاق المسكوت عنه. اسكتي وعيب الكلام في هذا الموضوع، لكن العارضة الستينية لا تجد عيباً في الحديث عن قضايا تدخل في صلب سعادة المرأة، وسعادة شريك حياتها. ولعل هذا هو ما يميزها عن عارضات «مسناّت» أخريات، برزن في السنوات الأخيرة وصرنا نشاهدهن في إعلانات الفوط الصحية، والحفاضات الخاصة بالسلس البولي، أو مراهم جفاف الجلد، والمناطق الحساسة، والأدوية التي تعالج هبّات الحرارة، وغيرها من المشكلات التي ترافق انقطاع الطمث.
في الأشهر الماضية كانت صور كارولين تنتشر على جدران باريس، والمدن الفرنسية، وفي دهاليز المترو، وعلى حافلات النقل العام، والمساحات المخصصة للملصقات الدعائية. والسبب اختيارها في إعلان لشركة شهيرة من شركات الملابس الداخلية. ونحن نراها في الصورة ترتدي مشدّاً للصدر أسود اللون، ولباساً من الدانتيلا، بينما يتناثر شعرها الفضي الطويل على كتفيها. هل هو جسد مشدود؟ كلا. هل كان صدرها خارجاً من عيادة طبيب التجميل؟ كلا. هل صبغت شعرها بالأسود، أو الباذنجاني؟ كلا. إنها امرأة ستينية ذات شحوم وترهلات، لكنها تبقى أنثى جذابة. أليس هذا ما تحلم به عموم الأمهات، والجدات في العالم؟
لم تمر حملة الملصقات من دون ردود فعل. فقد امتلأت مواقع التواصل بالتعليقات على صورة كارولين إيدا، منها ما يمتدح شجاعتها، ومنها ما يعيب عليها ما تقوم به. وبلغت بعض التعليقات السلبية حد التنمّر والتعبير عن الرفض والكراهية، ومرمطة صاحبتها في الوحل. وهناك من كتب: «إعلان بشع لعجوز باللباس... هذه قذارة». وبسبب ذلك الهجوم سارعت ساندرين بيتنكور، مديرة الشركة صاحبة الإعلان، إلى الاتصال بكارولين للاطمئنان عليها، والتأكد من أنها لم تتأثر بالشتائم، وكان الجواب: «أنا أتحمل مسؤولية عملي».
كارولين إيدا.. العارضة الفضية
تحب كارولين اللقب الذي أطلقته عليها الصحافة وهو «سيلفر مانيكان»، أي العارضة الفضية، وهي إشارة إلى لون الشيب في شعرها. وهي في حياتها العادية لا تتزين كثيراً، بل تكتفي بعصارات تحافظ على طراوة البشرة، وبزيوت للعناية بالشعر. أما ثياب كل يوم فهي سترة من الجينز وسروال مريح، وتحت السترة بلوزة قطنية تحمل عبارة: «عمري المفضل هو الآن». وعادة ما يفاجأ الناس بلطافتها، ويخرجون بانطباع يؤكد أنها ليست عارضة اعتيادية، ولا امرأة اعتيادية. وجاء في كتاب أصدرته قبل فترة: «عندي شحوم تتجمع على المعدة، وعندما أجلس تتكوم في طبقات رغم أني أمارس الرياضة. لكن شيئاً من الدهون يبقى ولا يتزحزح. وعندما كانت ابنتي صغيرة فإنها كانت تحب الاستلقاء فوق بطني وتقول إنها وسادة ناعمة ومريحة». وعنوان كتابها «الجيل الفضي»، وفيه تكشف أن وزنها 75 كيلوجراماً، ومحيط صدرها 100 C، ومحيط وركيها 104 سنتمترات. أما رياضتها المفضلة فهي الجلوس على الكرة المنفوخة، وممارسة اليوجا.
من كان يصدّق التغيير الذي حدث في حياتها؟ فقبل 5 سنوات كانت مجرد امرأة مطلقة، لها ولدان كبيران يبلغان من العمر حالياً 29 و33 عاماً، حيث ملّت من العمل في المبيعات، وعانت من ضغوط المعيشة التي انتهت بجلطة دماغية. فقد نشأت في أسرة ميسورة، وعاشت شبابها بكل المتع التي كانت متوفرة لجيلها، لكنها غادرت المستشفى لتجد نفسها فقيرة، وغير صالحة للعودة إلى وظيفتها. هل تيأس وتنزوي؟ لقد اختارت أن تستعيد زمام حياتها وتترك كل ما سبق وراء ظهرها، وتولد من جديد. ولدت كارولين إيدا كصاحبة مدونة نسائية «فضية» حميمة. وفي تلك الفترة لم يكن هناك سوى مواقع معدودة على الشبكة تتناول مشكلات السيدات الناضجات، وتتطرق إلى علاقتهن بأجسامهن، وكانت هي من الرائدات. بل صارت المتحدثة بلسان هذه الفئة من النساء ممن تجاوزن الخمسين. وجاء في كتابها أن عملها الجديد جعلها تشعر بالحرية والتوازن. كما لا تنكر أن الحظ وقف بجانبها.
تقول ستيفاني لور، وهي صاحبة موقع للتعارف بين من تجاوزوا سن الشباب، إن كارولين تجرؤ على قول ما تفكر فيه آلاف النساء من دون أن يمتلكن شجاعة التصريح عنه. صحيح أنها تعيش وحيدة من دون رجل لكنها لم تفقد الأمل في العثور على من يشاركها شيخوختها، أو على الأرجح أواخر شبابها. وقد تعرفت قبل فترة إلى رجل برازيلي أصغر منها، والتقيا في البرتغال، ثم في باريس، وفي عاصمة بلده، لكن الحكاية الجميلة لم تستمر. وفي الغرب، ليس بالضرورة أن تنتهي حكايات الحب بالزواج، لكنها تبقى من الذكريات العذبة التي تجدد الخلايا.
هي اليوم شخصية مطلوبة من المجلات النسائية، ومن شركات الأزياء، لكنها لا تحب أن توصف بالمناضلة النسوية، بل تفضل الدفاع عن أنوثة رومانسية. أي أنها ترفض أن تكون نجمة، وتحب أن تعكس صورة المرأة، الدافئة، الحنون، الشجاعة، الكريمة، والمدافعة عن الحق. وقد تعلمت من سنوات عملها في التجارة أن تكون واقعية. لذلك لا تراهن كثيراً على استمرار شهرتها، وتعرف أن لكل مرحلة نهاية، وتقول: «أحب الوقوف على أرض صلبة، إن كل شيء سيتبدد ذات يوم، وتلك هي سنّة الحياة، وحلاوتها. وبعد سنوات قلائل، سيراني الناس في الشارع ويقولون: أليست هذه هي العجوز التي عرضت ثياباً داخلية؟».
إن ما سيتبقى لها هو صورة المرأة التي تجرأت وكسرت حاجز الأفكار النمطية عن النساء. وهي العارضة التي تمرّدت على مقاييس العارضات، وعلى فورة عمليات التجميل، وتركت شعرها الفضي مسترسلاً من دون عقد، ولا رعب من أرقام العمر، وأعياد الميلاد.
إقرأ أيضاً: أشهر ممثلة بريطانية في القرن العشرين.. لماذا تظهر الليدي ماجي سميث في إعلان للحقائب؟