في العقد الخامس من القرن الرابع عشر وحتى بدايات العقد السادس، عانت أوروبا أسوأ جائحة عرفتها البشرية وهي مرض الطاعون. وكانت مدينة فلورنسا الإيطالية أكثر المدن الأوروبية تأثرًا بها حتى أنها في العام 1348 كانت قد فقدت نصف سكانها تقريبًا. وإذ نقرأ نصوصًا لمؤرخي تلك الحقبة ندرك أن الأمور لم تختلف كثيرًا بعد مرور 680 سنة على تلك الجائحة.
المرض الذي أصاب أوروبا آنذاك سببته بكتيريا غامضة انتشرت في زمن لم يكن الناس يفهمون تمامًا قواعد انتشار الأمراض، أما المرض الذي يصيبنا فهو فيروس جديد يتسرب إلى عالم يعتز بعلومه الطبية المتطورة. ولكن في الحالتين، كانت ردة الفعل الغريزية الأولى هي إقفال الحدود لمنع المرض من الانتشار. وحين لم ينفع الأمر، دعا المسؤولون إلى اتباع قواعد سلوك صارمة ولكن بعض الناس فقط تجاوبوا مع هذه التعليمات التي ترافقت مع تكاثر نظريات المؤامرة حين رمى بعضهم مسؤوليتها على الغرباء أو على الأقليات.
أشياء كثيرة تغيرت منذ العام 1340، كما قال جون كيلي، مؤرخ الجائحة، لكن الطبيعة البشرية لم تتغيّر. فقد اختلف الناس آنذاك كما يختلفون اليوم حول طريقة مواجهة هذا الخطر. وأقفل بعضهم في فلورنسا على أنفسهم في منازلهم وعاشوا في عزلة، بحسب ما يصف الكاتب والشاعر الإيطالي، جيوفاني بوكاشيو الذي عايش الجائحة في القرن الرابع عشر. كما أقفلت الحانات والمتاجر وحجرت المدينة نفسها.
وفي المقابل، خرج بعضهم الآخر إلى الشوارع مسلحين بالأعشاب والتوابل بهدف تنقية الجو، وقد تكون هذه نسخة قديمة عن معقماتنا وكماماتنا. أما البعض الأخير فتعاطى مع الطاعون بخفة بالغة وواصل حياته الاجتماعية وحفلاته وسهراته. يصف بوكاشيو الأمر بقوله أن لا أحد كان بمنأى ونادرًا ما حمت العزلة صاحبها في مدينة تغصّ بسكانها. لكن الناس الذين اجتمعوا في سهراتهم كانوا يعرضون أنفسهم لخطر أكبر. وقد كتب «ماركيوني دي كوبو ستيفاني»، وهو تاجر فلورنتيني ثري، عن عشاء جمع عشرة أصدقاء اتفقوا على اللقاء بعد أيام. ولكن في اللقاء التالي غاب اثنان أو ثلاثة منهم.
بقيت فئة أخيرة، هجرت مدينة فلورنسا وسواها من المدن لتلجأ إلى الريف حيث الهواء نقي والناس معزولون عن بعضهم بعضًا في مساحات شاسعة. أمضت هذه الأسر سهراتها مجتمعة حول الموقد وعلى ضوء الشموع تحكي «الحواديت» والحكايات للتسلية وتمضية الوقت وهذا ما نفعله نحن أيضًا مع فارق هو أننا نطلب من التلفزيون أو من «نتفلكس» أن يخبرنا «حدوتة» تنسينا عزلتنا وتربطنا بالعالم من جديد.