في سنّ السادسة والثمانين، يعيد الفنان البريطاني ديفيد هوكني، ابتكار نفسه كأنه شاب في مطلع الحياة. يقول عنه النقاد إنه الرسام الحيّ الأكثر انتشاراً في العالم. يتنقل ما بين لندن ومقاطعة النورماندي في فرنسا، يرسم الطبيعة، وأقاربه، ويعتني بفن تصوير الأشخاص، أي «البورتريه»، إنه يلتقط اللحظة مثل المصور الفوتوغرافي. لكنه لا يشتغل دائماً بالكاميرا، بل بالريشة والألوان، مع هذا تبقى الكاميرا قريبة من يده. فهذا العجوز المحب للحياة والمولود في برادفورد، هو أيضاً مصور، ونقّاش، ومصمم ديكور، وصاحب نظريات في الفن.
هكذا رسم نفسه
«ديفيد هوكني».. يبارز «مونيه» في الانطباعية
في ستينيات القرن الماضي، برز اسمه كشخصية أساسية في حركة «البوب آرت». واليوم هو واحد من أكثر الفنانين البريطانيين تأثيراً في القرن العشرين. يستخدم الألوان المنعشة والجذابة، ويبدع مناظر طبيعية، حيث يمتزج الرسم بالتصوير الفوتوغرافي. إنه يحب رسم المقربين منه، ونادراً ما يرسم الغرباء. وحين لا يجد أحداً حوله فإنه يرسم نفسه. إنه يحب الصعوبة، ينقل بريشته انعكاسات الضوء، والشفافية، والأشكال الضبابية، وغير المؤكدة، وهو بهذا يقترب من المدرسة الانطباعية الفرنسية في الرسم.
ولمزيد من الاقتراب، قرر الإقامة في مقاطعة النورماندي، إلى الشمال الغربي من فرنسا، حيث اشترى منزلاً قديماً يقع على بركة يتناثر حولها عدد من الطيور، وتطفو فوقها زنابق الماء. وهو يستمتع بشكل خاص برسم هذه البركة، والسماء، والغيوم المنعكسة فيها، وكذلك الصورة المرتعشة لأغصان الأشجار على سطحها. ويدرس هوكني تأثيرات النسيم في سطح الماء. يرسم تلك الظلال بدرجات من اللون الأبيض ذي النضارة المدهشة. إن تأثيرات الرسام الفرنسي مونيه واضحة، وهو لا ينكر ذلك.
ولا يفترق الرسام عن جهاز الآيباد الخاص به، ويأخذه معه في تنقلاته. يذهب في نزهة طويلة إلى بلدة «جيفرني»، حيث عاش كلود مونيه، ويرسم على الجهاز ما تراه عيناه من ألوان. وحين يعود إلى مرسمه يقوم بتحويل تلك الخربشات إلى لوحة مرسومة بأصباغ الأكريليك على القماش. وحين تنتهي اللوحة يشعر بسعادة كبيرة، كأنه كان في مبارزة مع رسامه المفضل، مونيه.
لوسي ولويس، رسمهما لأنهما من أقربائه
«دفيد هوكني» مهووس بفن البورتريه
عرف هوكني، مثل بيكاسو من قبله، أن على الرسام أن يمتحن موهبته في مواجهة أساتذة الأمس العظماء. إنه مثل بيكاسو الذي كان في بداياته يتمرّن على إعادة رسم اللوحات الكلاسيكية القديمة، ويعتمد عليها في تأكيد تفرده.
وخلال السنوات التي قضاها في فرنسا، استسلم ديفيد هوكني أيضاً لشغفه بتصوير «البورتريه». وهو يحب أن يستشهد بحكاية عن الناقد الفني كليمنت جرينبيرج، معلّم جيل من الفنانين في الستينيات، الذي قال لويليم دي كونينج: «اليوم، من المستحيل رسم صورة شخصية». وردّ عليه دي كونينج قائلاً: «أنت على حق تماماً، ولكن من المستحيل أيضاً عدم القيام بذلك».
شاهد هوكني في التلفزيون فيلماً عن الرسام جياكوميتي، وفيه يبدو جلياً هوس الفنان بفن «البورتريه» الذي استحوذ عليه. لذلك تأكد لديه أن هذا الفن سيبقى جزء أساسياً، ومتكرراً بين أعماله، وقد ينصرف عنه لكنه سيعود إليه عاجلاً أم آجلاً. لم يرسم هوكني مطلقاً صوراً للمشاهير، أو الأثرياء مقابل المال. إنه ليس مثل أندي وارهول الذي رسم أولئك الذين حلموا بأن يكونوا أعضاء في نادي المشاهير الذين رسمهم، وقد دفعوا غالياً ثمن الغرور. إن هوكني، مثل جياكوميتي، لا يرسم هوكني سوى أقاربه، وأصدقائه، والبستاني، على جراره، أو الممرضة التي جاءت لتطعيمه ضد كوفيد.. وينفّذ هذه الصور من دون أدنى تخطيط مُسبق.
«ليلة صيف» مرسومة على «التابلت»
أول رحلة إلى مصر كرسام كاريكاتير
ولد ديفيد هوكني في عائلة متواضعة، وهو الطفل الرابع من بين خمسة أطفال. وظهر شغفه بالرسم في سنّ مبكرة جداً، والتحق بمدرسة برادفورد للفنون في سنّ الحادية عشرة. كان والده من الرافضين أخلاقياً خلال الحرب العالمية الثانية. وسار على خطى أبيه، ورفض أداء خدمته العسكرية أواخر خمسينيات القرن الماضي. درس في الكلية الملكية للفنون في لندن وتخرج عام 1962. بدأ حياته المهنية كفنان، وقام بأول رحلة إلى مصر كرسام كاريكاتير صحفي لصحيفة «صنداي تايمز».
بعد سنتين، اكتشف العالم الجديد، وكاليفورنيا، ولقطات كاميرات «بولارويد» الآنية الجاهزة التي لا تحتاج إلى تظهير، كما تعرف إلى أصباغ «الأكريليك»، والفلل الجميلة، وحمامات السباحة الخاصة بها، والتي أصبحت فكرة موجودة في العديد من أعماله. صار رساماً معروفاً ومطلوباً. وفي خريف 2018 بيعت لوحة له بمبلغ زاد على 90 مليون دولار في مزاد بدار «كريستيز» في نيويورك، وهو رقم قياسي في مزاد لفنان حي، متجاوزاً بذلك مبيعات الأمريكي جيف كونز.
وبعيداً عن الصرعات الطليعية، يمارس هوكني فناً تصويرياً شبه تعبيري، الصور فيه للشخصية، والصور الفوتوغرافية، ومقاطع الفيديو. وعندما عرض أعماله للمرة الأولى في باريس، قبل أكثر من نصف قرن، أصبحت أعماله أكثر استقلالية، وأكثر تعبيراً عن سيرة ذاتية. إنه يرسم نفسه، ويصور والديه، وأصدقاءه، وسلسلة من المشاهد داخل منزله، وأولاداً في الحمام، وبرك سباحة، وحيوانات خشبية، وأسفاراً.
كان يحب القيام بدور المصور الفوتوغرافي في عروض الأزياء، لكن ذلك لم ينتقص منه. وكتبت عنه مجلة «فانيتي فير»: «على الرغم من أنه لم يكن يتمتع بسمعة دالي، أو بيكاسو، فقد أثبت ديفيد هوكني نفسه، في بداية السبعينيات، كشخصية رئيسية في البوهيميا الفنية العالمية، وشخصية أرستقراطية منحرفة في الفنون والآداب، تماماً مثل ويليام بوروز، وآندي وارهول، وفرانسيس بيكون».
هوكني، ببدلته الرمادية وحذائه الأصفر
حضر مأدبة الملك بحذاء «كروكس» أصفر فاقع
في عام 2022 أقام الملك تشارلز في قصر باكنغهام، حفل الغداء السنوي لحملة وسام الاستحقاق، ولأنه معروف باستخدامه الألوان الصارخة والجريئة، فقد حضر ديفيد هوكني لهذه المناسبة مرتديا بدلة وزوج من أحذية «كروكس» بلون أصفر فاقع. ولكن الملك أبدى آنذاك إعجابه بهذا الاختيار.
معرض انغماسي لديفيد هوكني في فبراير 2023 بلندن
«ديفيد هوكني».. يعاني الصمم وتفاصيل أعماله لا تصدق
أصيب الفنان بالصمم التام وهو في الأربعين، وذهب للعيش والعمل في لوس أنجلوس عام 1978. وعلى عتبات القرن الحادي والعشرين أقام مركز ومتحف مركز جورج بومبيدو في باريس معرضاً استعادياً لأعماله بعنوان «المناظر الطبيعية». وقف الزوار مسحورين أمام لوحات تصور المسابح الزرقاء في حدائق المنازل الفارهة في كاليفورنيا. ثم عاد ديفيد هوكني إلى إنجلترا عام 2005 وأقام في شرق يوركشاير، المنطقة التي عاش فيها طفولته. وكان له استوديو كبير، واصل فيه رسم مناظر طبيعية بأحجام كبيرة جداً.
تبدو التفاصيل الصغيرة في أعماله الأخيرة أشبه بالتطريز. فقد استعار نقوشاً من النسيج، وأنتج جدارية ضخمة، أو إفريزاً يمتد على عرض 90 متراً، يمثل مرور الفصول في الحديقة. لقد استلهم العمل من منزله في «النورماندي» الذي انتقل إليه في ربيع عام 2019. أغصان عارية تحت سماء رمادية، مع أولى الزهور، ثم سماء الصيف، والفواكه في الأشجار، وأكوام القش، والنهر بالأسفل يموج بأمطار الخريف، ثم تساقط أوراق الشجر، ونزول الثلج.
وقد عرض هذا العمل الاستثنائي في متحف «أورانجري» في باريس قبل ثلاث سنوات. واختيار هذا المتحف ليس صدفة، لأنه كان قد استقبل أعمال كلود مونيه في زمن مضى. ولديه حالياً دعوة من متحف مدينة «روان» القريبة من سكناه.
رغم تقدمه في السن يواصل ديفيد هوكني الاهتمام بأدق التفاصيل المتعلقة بمعارضه. كان لديه نموذج ثلاثي الأبعاد للغرف التي خصصها له متحف «روان»، وصور مصغرة لأعماله بالمقياس الصحيح، لمحاكاة أماكن تعليقها على الجدران.
آخر أعماله واحدة تمثل آخر أشعة غروب الشمس، وهي تتسلل من خلال السحب السوداء فوق المنزل. يقول إن «الانطباعيين رسموا المناظر الطبيعية النورماندية على نطاق واسع، لكنهم تجاهلوا المنازل الشهيرة بمعمارها الحجري، وشرفاتها الخشبية القاتمة».