29 ديسمبر 2025

بطولة فزاع للصيد بالصقور... جناح يحفظ الذاكرة وتراث يحلّق نحو المستقبل

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

حين يعلو جناح الصقر في الأفق، لا تبقى اللحظة مجرّد مشهد بصري عابر، بل تتحوّل إلى فعل ذاكرة حيّ، يستدعي سيرة وطنٍ صاغت الصحراء ملامحه، وعلّمته السماء معنى الحرية والسّمو. في تلك اللحظة، يتجسد الرابط العميق بين الإنسان وطائره، وتُستعاد حكاية متجذّرة في وجدان الإماراتيين، حيث كانت الصقارة، ولا تزال، أكثر من رياضة؛ إنها لغة هوية، ومدرسة قيم، وإرث وطني تناقلته الأجيال، بثقة واعتزاز.

مجلة كل الأسرة

فرياضة الصقارة في الإمارات لم تكن يوماً ممارسة موسمية، أو طقساً احتفالياً عابراً، بل أسلوب حياة ارتبط بالصبر وقوة الإرادة، وبعلاقة متوازنة بين الإنسان وبيئته. ومن هذا العمق الثقافي والإنساني، وُلدت البطولات التي لا تكتفي باستحضار التراث كذكرى، بل تعيد تقديمه بوصفه كياناً حيّاً ومتجدداً، قادراً على مواكبة الزمن، من دون التفريط في جوهره الأصيل.

مجلة كل الأسرة

وفي هذا السياق، يطلّ «مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث» عبر إعلان انطلاق «بطولة فزاع للصيد بالصقور»، كإحدى أبرز التظاهرات التراثية والرياضية، على مستوى الدولة والمنطقة. بطولة تؤكد أن التراث حين يُدار برؤية واعية، يتحوّل إلى قوة ناعمة تجمع بين الأصالة والتنافس، وبين الذاكرة والابتكار، ولا تُقاس أهميتها بحجم جوائزها التي تتجاوز 17 مليون درهم، فحسب، بل بما تحمله من رسائل عميقة حول صون الموروث الشعبي، وتمكين الأجيال الجديدة من حمل رايته، بثقة ومعرفة.

مجلة كل الأسرة

ومن قلب هذه البطولة، تتجلّى منافسات «الهدد» بوصفها واحدة من أكثر تجليات الصقارة أصالة. فمنذ اللحظة التي يُطلق فيها الصقّار صقره في فضاء الهدد، تبدأ حكاية لا تُقاس بالزمن، ولا بالمسافة، بل بعمق الارتباط بين الإنسان وطائره، وباختبار الذكاء الفطري للصقر، وقوة تدريبه، وقدرته على العودة، في مشهد يختزل قروناً من الخبرة والتقاليد المتوارثة. هكذا تعود الصقارة إلى جوهرها الأول، ممارسة تنبض بالحياة، وتحمل في تفاصيلها روح الأجداد.

وتتواصل منافسات «بطولة فزاع للصيد بالصقور» حتى 12 يناير المقبل، لترسّخ مكانتها كإحدى أكبر بطولات الصقارة في المنطقة، مستندة إلى تاريخ طويل من التنظيم الاحترافي والزخم التنافسي، الذي جعل منها محطة سنوية ينتظرها الصقّارون بشغف.

مجلة كل الأسرة

وتأتي انطلاقة البطولة هذا العام من خلال فئة الناشئين، في رسالة واضحة تؤكد أن الصقارة ليست ماضياً يُستعاد، بل حاضر يتجدد، ومستقبل يُصنع. فقد دشّن الناشئون منافسات «التلواح» في مقر «مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث» بمنطقة الهباب، والذي جُهّز وفق أعلى المعايير التقنية والمرافق الحديثة، بما يعكس تطور البطولة، وحرص القائمين عليها على توفير بيئة متكاملة تحافظ على أصالة الرياضة، وتواكب طموحاتها.

وشهدت المنافسات مشاركة واسعة تجاوزت 150 طيراً، توزعت على ثمانية أشواط في فئتي صقور تبع، وجير تبع، في مشهد عكس حجم الإقبال، والشغف المبكر برياضة الصقارة لدى الأجيال الجديدة، وأكد نجاح الرؤية الهادفة إلى استدامة هذا الموروث الوطني العريق.

مجلة كل الأسرة

وفي هذا الإطار، أكد راشد حارب الخاصوني، مدير إدارة بطولات فزاع، أن البطولة تحتل موقعاً متقدماً في روزنامة بطولات الصقارة إقليمياً، لما تتمتع به من عراقة وتنظيم احترافي، ومشاركة واسعة من مختلف الفئات، مشيراً إلى أنها لا تقتصر على كونها منافسات رياضية، بل تمثل منظومة متكاملة تجمع بين الحفاظ على التراث وترسيخه، ضمن رؤية مستدامة تعزز مكانة الصقارة كرياضة وهوية.

وأضاف، أن فئة الناشئين تشكّل ركيزة أساسية في استدامة هذه الرياضة، من خلال إعداد جيل واعٍ بقيم الصقارة، وقادر على حمل مسؤولية صون هذا الموروث الوطني، وتطويره مستقبلاً، بما ينسجم مع رؤية القيادة الرشيدة في الحفاظ على الهوية الوطنية، وتعزيز الاستثمار في الإنسان.

وهكذا، تواصل «بطولة فزاع للصيد بالصقور» ترسيخ حضورها كحدث رياضي وتراثي بارز، تتحول معه أرض الهباب إلى مساحة نابضة بالحياة، يلتقي فيها الماضي بالحاضر، وتتحاور فيها الأجيال بلغة واحدة عنوانها التراث. بطولة تثبت أن حماية الموروث لا تكون بحفظه في الذاكرة فقط، بل بإحيائه على أرض الواقع، وجعله جزءاً فاعلاً من المشهد الرياضي والثقافي المعاصر، ليظل جناح الصقر عاليًا… شاهداً على هوية لا تنكسر.