رحلة الهجن بنسختها الـ12... مسيرة الأجداد على دروب الصبر والأصالة
الصحراء كتاب مفتوح عن التاريخ، والجَمل هو وسيلة العبور إلى هذا المدى الشاسع، وما بينهما 29 مشاركاً من 18 جنسية في رحلة هجن استمرت 21 يوماً، داخل الصحراء الإماراتية على دروب الحجاج.
هكذا، حطّت رحلة الهجن في نسختها الثانية عشرة رحالها في المحطة الأخيرة، وهي القرية التراثية بدبي، وتحديداً، في القرية العالمية، وحملت بين كثبان صحراء الإمارات سحرها، وأصالة تراثها.
وفي استعادة لخطى الأولين، اجتازت الرحلة مسافة 1050 كيلومتراً عبر الصحراء، بعد أن خاض المشاركون والمشاركات تجربة متفردة في الحياة الصحراوية، مستمتعين بروعة الطبيعة وهدوء الصمت الذي يملأ الأفق بين الكثبان الذهبية، ما شكل لهم فرصة لفهم العلاقة العميقة بين الجمل والفارس، التي تتطلب صبراً، وتواصلاً دقيقاً، وثقة متبادلة.
وإذ يشكّل الجمَل أحد أبرز الرموز الراسخة في الذاكرة والهوية الإماراتية، وكما هو متعارف عليه أنه عنوان الصبر والقوة، والقدرة على التكيّف، ورفيق الرحلات الطويلة، فهو لا يزال حاضراً في الوعي الثقافي الإماراتي، يُستحضر في المهرجانات والرحلات التراثية، وسباقات الهجن، ليكون جسراً يربط الماضي بالحاضر، ونافذة تطل منها الأجيال الجديدة والزوار الأجانب، على عمق الهوية الإماراتية.
عبر هذه التجربة، خاض المشاركون الـ29 رحلة ثقافية وإنسانية، عايشوا خلالها أجواء الصحراء التقليدية، وتعرفوا إلى أسلوب الحياة البدوية، مؤكدين أن هذه الرحلة، ببعدها الثقافي والتراثي، تكسر الحواجز بين الشعوب، وتطلّ بنا على ثقافات جديدة، وتولّد روابط جديدة مع التراث والطبيعة.
وكانت رحلة الهجن انطلقت من منطقة السلع، في العاصمة أبوظبي، وصولاً إلى وجهتها الختامية في القرية التراثية بالقرية العالمية، حيث احتضنت الأجواء التراثية المشاركين، لتكشف لهم عن ثراء الثقافة الإماراتية، وعمق صلتها بالصحراء.
ويتماهى هذا البعد مع دور «مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث» كمرجع معتمد وموثوق، لحفظ ونشر التراث الوطني في دولة الإمارات، وتعزيز التراث الوطني الإماراتي، وتناقله بين الأجيال، والتعريف به على المستويين، الإقليمي والعالمي.
وخلال الرحلة، قطع المشاركون عدة محطات، أبرزها: السلع، وندّ الشبا، وقرن وكر العقاب، ورقعة روضة، ورملة ساحب عظيبة، والهرِه، ورملة بن مريود، والعبدلية، وجنوبي يو بلق، وجنوبي بطين ليوا، وغربي محمية المها العربي، وسبخة الدعيسية، ومحمية المها العربي، وسيح الحايرة، وجنوبي الخزنة بدع عامر، ونقا حمدان، والعجبان رملة مدران، وسيح السلم، وصولاً إلى القرية التراثية في القرية العالمية، بدبي.
وفي هذا السياق، أكد عبد الله حمدان بن دلموك، الرئيس التنفيذي لمركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، أن جوهر رحلة الهجن يتجلّى في ما تحمله من معانٍ راسخة قائمة على الالتزام وروح التعاون والصبر، وهي قيم برزت بوضوح خلال اجتياز القافلة للعديد من التحديات التي فرضتها وعورة بعض المسارات الصحراوية، إلى جانب الظروف الجوية والمناخية التي رافقت الرحلة، ما استدعى في مراحل عدة، زيادة ساعات الترحال اليومية للحفاظ على خط سير الرحلة وفق المخطط المعتمد.
وقال بن دلموك: «تُعد هذه الرحلة مصدر فخر كبير لنا، فهي واحدة من الرسائل الأساسية التي ننقل من خلالها رؤيتنا في حفظ وصون تراث الوطن منذ تأسيس المركز. وتحمل في تفاصيلها قيماً إماراتية أصيلة، في مقدمتها التعايش والمحبة، وهي قيم نحرص على ترسيخها من خلال تجربة واقعية تُعاش على أرض الصحراء».
وعن مسارات الرحلة، أوضح بن دلموك أن الوصول إلى المحطات المحدّدة كان يتم في كثير من الأحيان بعد حلول الظلام، مشيراً إلى أن تلك الدروب لا تختصر معنى الانتقال الجغرافي فحسب، بل تمثّل سردية حيّة لعلاقة الإنسان بالمكان والزمان، حيث شكّلت عبر التاريخ معالم نابضة بالحياة في وجدان أهلنا الأولين، وسجلاً مفتوحاً لذاكرة الصحراء.
وفي حديثه عن القيم التي تغرسها حياة الترحال في نفوس المشاركين، أشار إلى أن الرحلة شكّلت كذلك منصة حقيقية لنقل الموروث الإماراتي إلى المشاركين من مختلف الجنسيات، من خلال معايشتهم اليومية لتفاصيل الحياة الصحراوية، وقيمها، مؤكداً أن هذه التجربة الميدانية أسهمت في تعريفهم بعادات المجتمع الإماراتي وتقاليده، وعزّزت لديهم فهماً أعمق لمعاني التعايش والتعاون، بما يجعل رحلة الهجن جسراً ثقافياً حياً يربط بين الشعوب، ويعكس صورة دولة الإمارات كموطن للتسامح والانفتاح.
رحلة الهجن مبادرة وطنية تُجسّد قيم التلاحم وتُعمق الارتباط بالتراث وتمنح الجيل الحالي وعياً أصدق بجذوره
وأضاف الرئيس التنفيذي لمركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، أن رحلة الهجن شكّلت مدرسة حيّة للتعرّف عن قرب إلى الهجن، باعتبارها أحد أهم رموز التراث الوطني في دولة الإمارات، موضحاً أن هذه التجربة كشفت للمشاركين قيمتها المعنوية والمادية لدى أهلنا الأولين، ودورها المحوري في حياتهم اليومية، سواء في التنقّل، أو الترحال، أو تحمّل مشاق الصحراء
استقبال بالزعفران والبخور
وكانت القافلة حطّت رحالها في القرية التراثية بالقرية العالمية التي تزيّنت بالورود، وفاحت بأريج البخور والزعفران، فيما صدحت الفرقة الحربية بالأهازيج الشعبية، وسط حضور جماهيري غفير جاء لاستقبال الفرسان .
وفي هذا الصدد، عبّر المشاركون لـ«كل الأسرة» من إسبانيا، وهولندا، نيوزيلندا، وغيرها، عن جماليات هذه الرحلة، وتماسّها مع التراث الإماراتي، بما يجسده من حضور راسخ لدى الأجداد، والعمل على نقله للأحفاد بطريقة حيوية ومعيشة عن قرب.
وحتى أن بعض المشاركين، ولشدّة تماسّهم مع البيئة المحيطة، باتوا يردّدون بعض الكلمات بالعربية، على سبيل شكراً أهلاً بالإمارات، وغيرهما، ويبدون منسجمين، إلى حدّ بعيد، مع مفردات التراث وملامحه حيث صبغت وجوه بعضهم بلون الزعفران .
وشهدت مراسم الختام تكريم المشاركين، ومنحهم شهادات تقدير، في أجواء احتفالية تراثية جسّدت روح الرحلة وقيمها.
وبهذا الخصوص، قال المشارك الهولندي مورغان فان برينك، إنّه قرر خوض هذه التجربة الفريدة لما تحمله من عمق إنساني، مشيراً إلى أن الرحلة كانت في بدايتها صعبة، لكنها علّمته معنى الصبر، وبناء علاقة قائمة على الثقة مع الهجن، لافتاً إلى أن الوجود في قلب الصحراء كان أشبه باكتشاف عالم جديد مع كل خطوة.
من جانبه، اعتبر سلطان علي الرزي، من الإمارات، أن رحلة الهجن منحته سلاماً داخلياً، وتجربة لا تُقاس بالمسافات، مؤكداً أن العيش على إيقاع الصحراء أعاد إليه معاني البساطة والاتزان، وعمّق ارتباطه بتراث الأجداد، وقيمهم الأصيلة.
* الصور: من المصدر
