مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي... حيث تُبعث الذاكرة العربية على الخشبة الرملية
حين تختار الشارقة الصحراء خشبة للمسرح، فإنها لا تستحضر المكان فحسب، بل تستدعي الذاكرة العربية، بكل ما تحمله من شعر وبطولة وحكايات. فهناك، حيث تتسع الرمال للرؤية، ويعلو الصوت الإنساني فوق صمت الطبيعة، تتجدّد رسالة المسرح بوصفه فناً جامعاً للهوية والمعنى.
فقد انطلقت الدورة التاسعة من مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي، بحضور ورعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لتؤكد أن التراث حين يُعاد تقديمه بإبداع، يتحول إلى لغة معاصرة تخاطب الإنسان أينما كان، في مشهد تتوحد فيه رمال الصحراء مع نبض الخشبة، وتتحول فيه الذاكرة العربية إلى فعل مسرحي حي، تواصل فيه الشارقة تكريس رؤيتها الثقافية التي ترى في الفن رسالة، وفي المسرح مرآة للهوية والإنسان، وتؤكد أن الإبداع قادر على استعادة الحكاية، وبعث التاريخ، وصياغته، بلغة جمالية معاصرة.
وشهد اليوم الأول من المهرجان تقديم العرض المسرحي الافتتاحي «البرّاق وليلى العفيفة»، من تأليف صاحب السمو حاكم الشارقة، والذي قدّمته فرقة مسرح الشارقة الوطني، في عمل مسرحي يجمع بين الدراما التاريخية والرؤية البصرية المعاصرة، ويستحضر الشعر العربي بوصفه ديواناً الذاكرة، ووعاء القيم. وأشاد صاحب السمو حاكم الشارقة بأداء الممثلين، وبالسيناريو، وبحسن توظيف اللغة الشعرية، والتقنيات المتطورة المستخدمة في العرض، مشيراً سموه إلى أن العمل تميّز بإضافة عناصر الفرجة البصرية والسينما إلى المسرح، ما أضفى عليه تنوعاً وغنى، في مكوناته الفنية. وأكد سموه أن الإمكانات والرغبة الجادة التي أظهرها مسرح الشارقة الوطني، أسهمت في خروج هذا العمل بصورة مشرّفة تحمل اسم دولة الإمارات العربية المتحدة في هذا المهرجان.
واعتمد العرض على توظيف عناصر تعبيرية حية، وعروض مصوّرة، إضافة إلى حضور الخيول والجمال، ما أضفى واقعية بصرية عمّقت تأثير المشاهد، وجسّدت روح البيئة العربية الأصيلة، وجعلت من الصورة الشعرية مشهداً محسوساً نابضاً بالحياة.
قدّم العرض فرقة مسرح الشارقة الوطني، بمشاركة نخبة من نجوم التمثيل، المحليين والعرب، من بينهم أحمد الجسمي، وباسم ياخور، وإبراهيم سالم، وعبدالله مسعود، وعزة زعرور، فيما تولّى إخراجه المخرج محمد العامري. حيث شكّلت مشاركة الفنان باسم ياخور في مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي 2025، إضافة نوعية لافتة، إذ قدّم حضوراً تمثيلياً متوازناً يجمع بين الكثافة الأدائية، والقدرة على الانسجام مع الفضاء الصحراوي المفتوح. وتميّز أداؤه بالتحكم في الإيقاع، واللغة الجسدية، مع توظيف صوته وملامحه لخدمة البعد الشعري والدرامي للنص، بما منح الشخصية عمقاً إنسانياً يتجاوز الإطار الحكائي.
دعم متواصل للمسرح العربي
بدورهم، عبّر مخرجو العروض المشاركة في الدورة التاسعة من مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي، عن تقديرهم العميق لمبادرات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، مؤكدين أن دعمه المتواصل للمسرح العربي لم يكن مجرد رعاية ثقافية، بل رؤية حضارية أعادت للفن المسرحي مكانته، ودوره في وصل الماضي بالحاضر. فقد أشاد الفنان أحمد الجسمي بالدور الريادي لصاحب السمو حاكم الشارقة، في دعم الحركة المسرحية، محلياً وعربياً، وأكد أن مهرجان المسرح الصحراوي يُشكّل تجربة استثنائية، ليس لكونه يُقام في فضاء مفتوح وغير تقليدي فقط، بل لأنه يستنطق الموروث الثقافي العربي، ويقدّمه بلغة فنية معاصرة، لافتاً إلى الاهتمام الخاص الذي يوليه سموه للمهرجان، وكتابته نصوص عروض افتتاحية في دورات سابقة، ما أسهم في ترسيخ مكانته، واتساع صداه.
وتوقف الجسمي عند مسرحية «البرّاق وليلى العفيفة»، التي كتبها صاحب السمو حاكم الشارقة، وقدّمتها فرقة مسرح الشارقة الوطني، في افتتاح هذه الدورة، معتبراً أنها عمل تاريخي مشغول بدرامية عالية، يندرج ضمن مشروع ثقافي متكامل يسعى إلى إعادة قراءة التاريخ، وربطه بالأجيال الجديدة. ولفت إلى أن العرض، وهو من إخراج محمد العامري، يُعد الأضخم في مسيرة الفرقة، لما يحمله من تكامل فني يجمع بين المسرح، والسينما، والشعر، والغناء، والاستعراض، بمشاركة أكثر من 150 فناناً وتقنياً.
تجارب تتجدّد
من جهته، عبّر المخرج إياد الشطناوي عن سعادته بالمشاركة بعرض «يا زين» الذي تقدمه فرقة المسرح الحر الأردنية، مؤكداً أن خصوصية مهرجان المسرح الصحراوي تحفّز المخرجين على المغامرة الفنية، والبحث الجمالي. وأوضح أن العرض، المأخوذ عن نص للكاتب أحمد الفاعوري، يقوم على معالجة مسرحية لأغنية تراثية أردنية، في محاولة لاستعادة الذاكرة الشعبية بروح معاصرة.
نقلة نوعية في مسار المسرح العربي
من جهته، رأى الكاتب والمخرج جمال ياقوت، أن مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي يمثل نقلة نوعية في مسار المسرح العربي، مشيراً إلى مشاركته الثانية كمخرج عبر عرض «الزير سالم» الذي تقدمه فرقة كريشين جروب المصرية، وأوضح أن النص استند إلى أكثر من عشرين مرجعاً تاريخياً ليتناسب مع الفضاء المفتوح، مقدماً قراءة مختلفة لحكاية الزير سالم، تعيد جذور الصراع إلى ما قبل حادثة الناقة، وتكشف عمق النزاعات التي فجّرت حرباً استمرت أربعين عاماً.
مكانة وهوية
«هذا هو المسرح الذي يشبهنا»… بهذه العبارة لخّص المخرج محمد الصادق تجربته مع عرض «الكنز» الذي تقدمه فرقة زاويا الليبية في أول مشاركة لها في المهرجان. وأكد أن المسرح الصحراوي يعيد الاعتبار إلى جوهر المسرح القائم على الممثل، والنص، والجمهور، مستعرضاً من خلال عمله ملامح من التراث الليبي الجنوبي عبر ثلاث حكايات، تتكئ على الشعر والموسيقى، بوصفهما لغة أساسية للسرد.
تجربة تليق بخصوصية المكان
أما المخرج فالح فايز، الذي يشارك لأول مرة بعرض «ليلى وألف ليلة»، من إنتاج فرقة السعيد القطرية، فأشار إلى أن العمل ثمرة إعداد استمر ثلاث سنوات، سعياً لتقديم تجربة تليق بخصوصية المكان، معرباً عن حماسه لخوض تجربة الإخراج فوق أرض رملية، تحيط بها الكثبان، والخيم، والجمال، في مشهد يختزل روح المسرح الصحراوي.
ترسيخ مكانة المسرح الإماراتي
واختتم عبدالرحمن الملا، مخرج عرض «جمر الغضى» الذي قدمته جمعية كلباء للفنون الشعبية والمسرح، بتوجيه الشكر لصاحب السمو حاكم الشارقة، على جهوده التي أسهمت في ترسيخ مكانة المسرح الإماراتي، معرباً عن أمله في أن تمثل مشاركته الأولى في المهرجان إضافة مشرقة، تعكس تطور التجربة المسرحية المحلية.
