04 ديسمبر 2025

مريم الحوسني: لوحة «آل نهيان» هي لوحة العمر... وحكاية وطن

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

ليس كل فنان تبدأ حكايته من مرسم، أو من درسٍ أوّل. بعض الحكايات تبدأ من الداخل، من شعور يولد مع الإنسان، ويكبر بصمت، حتى يتحوّل إلى هوية. هكذا تبدو رحلة الفنانة الإماراتية الشابة مريم الحوسني؛ فالرسم بالنسبة إليها ليس مهارة مكتسبة، بل رفيق طفولة، ونَبض عاش معها كما تعيش الفكرة في خيال صاحبها، قبل أن تُترجم إلى لون.

مجلة كل الأسرة

في هذا الحوار، نذهب مع الفنانة مريم الحوسني إلى حيث تولد اللوحة، إلى تلك المساحة التي يلتقي فيها الفن بالوجدان، والصورة بالمعنى. ففي أعمالها يلمس المتلقي واقعية دقيقة، لكنها تحمل ما يتجاوز الحقيقة البصرية؛ روحاً تُضاف إلى الوجوه، ولمعة إحساس لا يمكن للكاميرا أن تلتقطها. ففي لوحتها «آل نهيان»، التي منحتها خمسة عشر شهراً من عمرها، يتجلّى هذا الإحساس بأعمق صوره؛ إذ جمعت بين القيم العائلية والذاكرة الوطنية، في مشهد يُشبه لحظة التقاء الزمن بالمحبة. وبين خلفيتها الهندسية التي علّمتها الانضباط، وشغفها الذي منحها حرية الخيال، وبين رحلاتها بحثاً عن خامات تعكس صدق العمل، تَشكّل لدى هذه الفنانة أسلوب فريد يمزج بين العقل والقلب، وبين الدقة والإحساس. 

مجلة كل الأسرة

كيف بدأتِ رحلتك مع الفن، وما اللحظة التي شعرتِ فيها بأن الرسم سيكون جزءاً لا يتجزأ من هويتك؟

بعض الأشخاص يلتقون بالفن في مرحلة ما من حياتهم، أما بالنسبة لي، فأشعر بأن الفن وُلد معي. فمنذ طفولتي أدركتُ أن الفن توأمي الذي يرافقني أينما اتجهت، ويكبر معي، خطوة بخطوة.

لوحتك «آل نهيان» التي استغرقت خمسة عشر شهراً من العمل المتواصل، ما الذي أردتِ إيصاله من خلال هذا الجمع الرمزي بين الشيخ زايد، طيّب الله ثراه، وأبنائه الشيوخ حول طاولة واحدة؟

أُطلق على لوحة «آل نهيان» دائماً اسم لوحة العمر، لأنها فعلاً جمعت خلاصة سنوات طويلة من الخبرة، وكل اللحظات التي تعلّمتُ فيها كيف أصغي للّون وأثق بحدسي. قضيتُ خمسة عشر شهراً لا أرسم فحسب، بل أعيش داخل هذا المشهد، وأشعر بكل تفاصيله، كأنّه قائم أمامي.

مجلة كل الأسرة

كانت فكرة رسم لوحة عائلية تجمع المغفور له الوالد، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، مع جميع أبنائه الشيوخ الكرام، تحدّياً كبيراً، وممتعاً في الوقت ذاته. تخيّلتُ المشهد أولاً: طبيعة الجلسة، نظراتهم، الجو الحيّ الواقعي، وإحساس المكان... ثم نقلتُ الصورة التي وُلدت في مخيلتي إلى الواقع، بتفاصيل دقيقة تجعل المشاهد يشعر كأنه أمام لحظة حقيقية أوقفتها من الزمن.

هذه اللوحة بالنسبة لي ليست مجرد عمل فني. إنها انعكاس لروح الأسرة التي تربّينا عليها، فالأسرة هي أساس المجتمع. أردتُ أن أُظهر كيف أن قوّة الإمارات تبدأ دائماً من البيت، من المحبة، والترابط، والحكمة التي تركها لنا الشيخ زايد، طيّب الله ثراه. وأتمنى أن يشعر كل من يقف أمام اللوحة بالفخر، وأن يدرك أن العلاقة بين القيادة والشعب هي علاقة أبوّة، قبل أن تكون علاقة رسمية.

مجلة كل الأسرة

نلحظ في أعمالك اهتماماً بالتفاصيل الدقيقة والملامح الواقعية، كيف تتعاملين مع هذا التحدّي بين نقل الحقيقة وإضافة لمستك الفنية الخاصة؟

أحب التفاصيل، ليس لأنها تُشبه الواقع فقط، بل لأنها تكشف شخصية الشيء الذي أرسمه. فالملامح الواقعية بالنسبة لي أشبه بخريطة، لكن الخريطة وحدها لا تكفي؛ فالفنان يجب أن يضع روحه على الخط، ويجعل العين ترى ما لا تلتقطه الكاميرا. عندما أرسم وجهاً، لا أحاول نقله كما هو، بل أسعى إلى إيصال ما شعرت به وأنا أتأمله. أغيّر أحياناً درجة الضوء، أو أرفع حرارة اللون، أو ألطّف منطقة ما، أو أضيف لمعة صغيرة تقول للمشاهد: هذا الشخص حي... ينبض.

والتحدّي الحقيقي ليس في نقل الحقيقة فقط، بل في احترامها من دون أن أقيّد نفسي بها. فالواقعية بالنسبة لي بوابة لا سجناً؛ أدخل من خلالها إلى اللوحة، ثم أسمح للإحساس بأن يقودني. وتظهر لمستي الفنية في اللحظة التي أدرك فيها أن الجمال لا يكمن في التطابق، بل في الصدق، والشعور، والأثر الذي يبقى في عين المتلقي.

يمكن القول إنني أتعامل مع الأدوات كما يتعامل الكاتب مع اللغة؛ لا يمكن أن تُكتب جملة قوية بحروف ضعيفة

سافرتِ إلى موسكو لاختيار أدواتك وألوانك الزيتية يدويّاً.. ما الذي يعنيه لكِ هذا الاهتمام بالخامات؟

بالنسبة لي، الخامة هي نبض اللوحة. وعندما سافرتُ إلى موسكو واخترتُ أجود أنواع الألوان الزيتية المصنوعة يدوياً، شعرتُ كأنني أختار مفردات جديدة للغتي الخاصة. فالفنان لا ينطق بالكلمات، بل ينطق بريشته، ولهذا فإن اهتمامي بالخامات هو احترام للعمل، وللشخص الذي سيقف أمامه. أريد للّون أن يعيش لسنوات طويلة، وألّا يبهت، أو يخون الفكرة. نعم، يمكن القول إنني أتعامل مع الأدوات كما يتعامل الكاتب مع اللغة؛ لا يمكن أن تُكتب جملة قوية بحروف ضعيفة، ولا يمكن أن يولد عمل صادق من ألوان بلا روح. فاختيار الخامة جزء أساسي من صدقي الفني.

خلفيتكِ في هندسة الطيران تبدو كأنها منحتك منظوراً مختلفاً للفن، كيف يلتقي الانضباط الهندسي مع الخيال التشكيلي في طريقة تفكيرك وإبداعك؟

هندسة الطيران علم يُعلّمك الدقة، والحساب، واحترام كل تفصيلة، مهما كانت صغيرة. أما الفن، فيُعلّمك الحرية، والقدرة على كسر القواعد لكن بوعي. وما يحدث داخلي هو مزيج من الاثنين... أرسم بخيال واسع، لكن في الخلفية صوت المهندس بداخلي يذكّرني دائماً بالتوازن، وبالمنظور، وبأن لكل جزءٍ حقه من التركيز والإتقان. هذا اللقاء بين العقل والخيال هو ما يصنع أسلوبي؛ الخط حرّ لكنه محسوب، والضوء عفوي لكنه مقصود. أشعر بأن الفن والطيران التقيا داخلي وصنعا الطريق الذي أسير فيه اليوم.

مجلة كل الأسرة

عندما يتأمل الزائر لوحتك «آل نهيان»، يشعر بأنه أمام مشهد من الذاكرة الوطنية. ما الرسالة الإنسانية والوطنية التي ترغبين في أن تبقى في وجدان كل من يقف أمام هذه اللوحة؟

بالنسبة لي، «آل نهيان» ليست مجرّد لوحة، إنها جزء من الذاكرة الإماراتية. أثناء رسمها، كنت أفكر في الأمان الذي نشأنا عليه، وفي القدوة التي طالما وجدناها في قيادتنا، وفي العلاقة الإنسانية التي تجمع بين القيادة والمواطن.

رسالتي بسيطة وعميقة، في الوقت نفسه: عندما يشاهد أحدهم اللوحة، أريده أن يتذكر أن الوطن ليس صورة في كتاب. الوطن هو أشخاص، وقلوب، ومواقف، وحكايات. أريده أن يشعر بالفخر كما شعرت أنا، وأن يدرك أن هذا المشهد ليس مجرّد رسم، بل امتداد لذاكرة وطن كامل. أريد لكل من يقف أمامها أن يقول: هذه نحن... هذه روح الإمارات.