قصر الحصن ليس مجرّد بناء من حجر، ومرجان، ورمال، بل وثيقة حيّة تحكي فصول تأسيس أرض دولة الإمارات العربية المتحدة، ومسيرة شعبها، وتحوّلات مجتمعها عبر أكثر من قرنين من الزمن.
جولة داخل قصر الحصن
بعد ترميم قصر الحصن، أصبح واحداً من أهم المعالم الثقافية في أبوظبي، متحفاً، ومركزاً نابضاً بالحياة، يفتح أبوابه أمام الزوار من مختلف الأعمار. حيث قامت «كل الأسرة» بجولة خاصة برفقة فريق «حياكم في أبوظبي»، الذراع السياحية لدائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، لاكتشاف ملامح هذا الصرح التاريخي الذي يروي، عبر غرفه وساحاته ومقتنياته، قصة المجتمع الإماراتي القديم، ويحفظ إرث الأجداد، ويقدم للأجيال الجديدة صورة حيّة عن جذور وطنهم.
حصن متين ببرجه الشمالي الشهير
يرجع تاريخ القصر إلى القرن الثامن عشر، حين شُيّد كحصن بسيط يطلّ على أهم مصادر المياه العذبة في الجزيرة، قبل أن يتحول، تدريجياً، إلى حصن متين ببرجه الشمالي الشهير، ثم إلى مقر للحكم والإدارة. ومن بين جدرانه بدأت ملامح أبوظبي تتشكل، وبدأت قصة مدينة أصبحت اليوم عاصمة عالمية تزدهر بثقافتها، وتاريخها، وحاضرها المتقدم، فبين أجنحة القصر الأربعة، يحتضن المكان مجموعة من التحف والمقتنيات التراثية التي تحكي تفاصيل الحياة الإماراتية في الماضي، من الأدوات اليومية البسيطة، إلى ما كان يُستخدم في المواسم والفصول.
مركز القرارات السياسية والاجتماعية
وعلى مدى عقود طويلة، كان قصر الحصن موطناً للحكام، ومركزاً للقرار السياسي والاجتماعي، ومكاناً يموج بالحياة اليومية، للرجال والنساء والأطفال. وفي جنباته تفتحت قصص قيادات صنعت تاريخ البلاد، وتكوّنت ملامح مجتمع إماراتي متماسك. وبين عامي 1968 و1970، تأسس «المجلس الوطني الاستشاري»، كبيت يجمع الإمارات المتصالحة، وشاهداً على لحظات فاصلة في مسيرة الوطن، موثقاً قرارات مصيرية ومناقشات وطنية واتحادية امتدت حتى أواخر التسعينيات.
ومع مرور الوقت، أصبح المقر قلباً نابضاً للمجلس الوطني الاستشاري، ثم المجلس الوطني الاتحادي، مساهماً في صياغة نظام حكم حديث، راسخ الجذور في تقاليد الشورى والمجلس العريقة. ولم يكن اختيار موقعه خارج أسوار «قصر الحصن» صدفة، فهو يعكس استمرار القصر رمزاً للحياة السياسية والاجتماعية ومركزاً للحكمة والإدارة في أبوظبي، والإمارات كلها.
جناح الشيخة سلامة بنت بطي... قلب البيت وملهمته
تبدو جدران «قصر الحصن» كأنها تستعيد حكايات البنّائين الذين رفعوا حجارتها، وتستعيد معها ملامح المجتمع القديم، ودور المرأة الإماراتية التي حضرت بقوة في تفاصيل الحياة. ويبرز هذا بوضوح في «الجناح الغربي»، المخصص للعائلة الحاكمة، حيث تُعرض مقتنيات شخصية، وقطع أثرية تعود إلى الفترة التي عاش فيها الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، لتمنح الزائر نافذة دافئة على تاريخ مفعم بالذكريات والإنسانية، بيت القيادة، وروح العائلة الحاكمة.
فقد شكّل الجناح المخصص للشيخة سلامة بنت بطي القبيسي، «أم الشيوخ»، إحدى أهم محطات القصر، وأكثرها دفئاً وإنسانية. هنا، وسط هذه الغرفة التي تقع في قلب المنزل، تتجسد حياة العائلة الحاكمة في تفاصيلها الأولى. وتروي مقتنيات المكان سيرة المرأة التي أسهمت في تشكيل شخصية حكّام الإمارات الأوائل.
في الحجرة تطالع الزائرَ صورة رائعة، تجمع الشيخة سلامة بابنها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، إنها صورة تختزل أمّاً عظيمة، حملت قيم البساطة والحكمة، وربّت أبناءها على القيادة المتوازنة، والرؤية السديدة. هذه الأم هي جدّة الشيوخ حكام الإمارات اليوم، وهي التي تابعت بناء الدولة الوليدة، بحرص ومحبة.
وتبرز في الغرفة قارورة زجاجية مملوءة بالنفط الخام، تحكي قصة أول لقاء للشيخ زايد بالنفط، حين أرسلت إليه والدته هذه الزجاجة إلى مدينة العين، ليعرف شكل هذا المورد الجديد الذي سيغيّر مستقبل البلاد. وإلى جانب ذلك، نجد «جامة» من سعف النخيل مملوءة باللوز، والجوز، والفستق، من المكسّرات التي كان يحرص الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان على توفيرها دائماً، كضيافة مفضّلة لأهل البيت، وزواره، خصوصاً أن الغرفة كانت جزءاً من إقامة «أم الشيوخ».
كانت الشيخة سلامة من أكثر النساء تأثيراً في تاريخ أبوظبي، فهي «نبض المنزل وروحه»، كما يصفها جناح القصر، وكانت تجمع في غرفتها النساء والأطفال، وتمنح أبناءها حكمتها وإرشاداتها. وفي «غرفة نساء المجلس»، تُستعاد ملامح الحياة العائلية الحميمية؛ إذ كانت النسوة يجتمعن كل صباح لتناول الإفطار، بينما يقضي الأبناء وقتهم مع والدتهم، طلباً لدفئها ومشورتها.
كما شكّلت «أم الشيوخ» مجلساً نسائياً بارزاً في إحدى غرف القصر، يستضيف سيدات المجتمع الإماراتي، والضيفات من الخارج. كان مجلساً عامراً بالحكمة والتقاليد، تلجأ إليه النساء طلباً للاستشارة والمساندة.
شاهد على التحولات الكبرى
رافق قصر الحصن كلّ التحولات التي شهدتها الإمارة، من بدايات اكتشاف النفط إلى تطور الإدارة الحديثة، وصولاً إلى إعلان الاتحاد عام 1971. وظل المكان شاهداً صامتاً على انتقال الإمارات من مجتمع يعتمد على البحر والصحراء، إلى دولة عصرية ترسم مستقبلاً عالمياً.
احتفاء في عيد الاتحاد
وفي كل عيد اتحاد، يقف قصر الحصن رمزاً للبيت الأول، واللبنة التي انطلقت منها مسيرة الوحدة. هنا، تكتمل الحكاية بين الماضي المجيد، والحاضر المزدهر، ويُستعاد الإرث العائلي والإنساني الذي شكّل هوية الإمارات.
