17 نوفمبر 2025

مروة السنهوري: الضحك مساحة لاستعادة إنسانيتنا وسط الضجيج و«عين جديدة» ترصد جمال التفاصيل

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

في زمنٍ يمكن وصفه بالزمن الصعب، تكتب مروة السنهوري عن «دهشة الضحك والعيش العميق»، وهو عنوان كتابها الأول الذي وقعته في معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الـ44، ويقودنا نحو «رحلة في فلسفة الحياة من دهشة البدايات إلى عمق التجربة الإنسانية».

مجلة كل الأسرة

وفي لفتة تقدير وامتنان، أهدت الكاتبة والإعلامية مروة السنهوري نسختها الأولى من الكتاب إلى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، نصير المعاقين، حفظه الله ورعاه، ووجّهت إلى سموه كلماتها: «أهديكم حروفي، وهي تمضي بخطى متواضعة على دروب الفكر والمعرفة، ونحن نتعلّم من سموكم أن الكلمة مسؤولية، وأن العلم رسالة، وأن الإنسان، «كائناً من كان»، هو جوهر التنمية، ومعناها الأسمى، من فيض رؤاكم نستلهم دهشة الحياة، ومن حكمتكم نتعلّم عمق الضحك ونقاء العيش».

كما أهدت السنهوري نسخة من كتابها إلى الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي، رئيسة مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، تقديراً لعطائها الإنساني الكبير، وجهودها الريادية في دعم و مناصرة واحتواء وتمكين الأشخاص من ذوي الهمم في الإمارات، والوطن العربي، وتعزيز حضورهم الفاعل في المجتمع من خلال مبادرات رائدة ومشاريع تنموية.

«كل الأسرة» حاورت السنهوري واقتحمت بعض عوالمها، وخاضت معها غمار كيفية  «العيش العميق»، والانطلاق إلى آفاق أرحب.

مجلة كل الأسرة

ماذا عن الكتاب وكيف للإنسان أن يبلغ عمق العيش؟

كتابي «دهشة الضحك والعيش العميق»، رحلة داخل الذات الإنسانية، تلامس قضايا العيش، والوعي، والعلاقات، واليقين، والتسامح، والدهشة، وكيف يمكن للإنسان أن يعيش حياته بعمقٍ، وصدقٍ، وامتنان. يضم الكتاب عشرين مقالاً متنوّعاً من النصوص والمقالات التأملية التي تتناول الإنسان في لحظات ضعفه وقوّته، فرحه وانكساره، بحثه عن المعنى وسط زحام التفاصيل اليومية.

كل مقالٍ يحمل بصمتي الخاصة في الكتابة التأملية الوجدانية، وتفتح تلك المقالات أمام القارئ مساحة للتفكير، وتدعوه لأن يعيش الحياة، ببطء ووعي. باختصار، هو  كتاب عن الإنسان في رحلته نحو نفسه، عن الحكايات الصغيرة التي تُضيء الأيام، وعن الدهشة التي تجعلنا نرى العالم كما لو أنه يُخلق من جديد كل صباح.

يتناول الكتاب موضوعات مثل: كيفية تحويل التحدّيات إلى نجاحات («كيف تَصنَع النَّجاح من خلِّ التفَّاح»)، التأمل في الحياة اليومية من خلال الضحك والوعي («دهشة الضحك والعيش العميق»)، القراءة النقدية للفن والثقافة «في مديح الروايات الساخرة»، «محي الدين كوتي … حارس الثقافة»، والتفاعل مع الواقع الفني والاجتماعي والثقافي، في المنطقة، والعالم.

  في زمنٍ يمكن وصفه بالصعب، كيف يمكن للضحك أن يكون مدخلاً للتأمل والفلسفة وترسيخ نظرة أخرى للحياة؟ 

تتسارع وتيرة الحياة في الوقت الراهن، ويشهد زمننا الحالي تراكم الضغوط، ليتحول الضحك من مجرّد رد فعل عاطفي إلى فعل فلسفي واعٍ. فالضحك، في هذا السياق، ليس هروباً من التعاسة، بل هو مواجهة لها، من زاوية مختلفة.

وكمدخل للتأمل، يمثل الضحك لحظة انقطاع عن رتابة الواقع وصرامته. هذه اللحظة، التي تتسم بالدهشة والخفة، تتيح للعقل مساحة للتأمل في المفارقات والعبثية التي تحيط بالوجود الإنساني، عندما نضحك على موقف ما، فإننا نبتعد عنه قليلاً، وهذا البعد هو ما يمنحنا القدرة على رؤيته بوضوح أكبر، ما يقود إلى تأمل أعمق في جوهر الأشياء.

ويرسخ الضحك نظرة أخرى إلى الحياة تقوم على المرونة والامتنان، إنه يذكّرنا بأن الحياة، على الرغم من قسوتها، لا تزال تحمل في طياتها عناصر الدهشة، والجمال، والبساطة، إنه يكسر حاجز الجدية المفرطة التي قد تقود إلى اليأس، ويفتح الباب أمام تقبّل النقص، والضعف الإنساني. إن العيش العميق يبدأ حين نتوقف قليلاً لنرى الأشياء بعيون جديدة، والضحك هو تلك «العين الجديدة» التي ترى الجمال في التفاصيل.

العيش بعمق لا يعني الغوص في الألم، بل التصالح مع كل ما فينا من ضوء وظلال

 هناك كثير من الكتب التي تتحدث عن التنمية البشرية والسعادة، ما المختلف في طرحك، وكيف ترين الفرق بين الضحك كفكرة إنسانية، والضحك كـ«وصفة جاهزة» في كتب التنمية البشرية؟

الاختلاف الجوهري في كتابي «دهشة الضحك والعيش العميق» يكمن في أنني أنظر إلى الضحك كـ«تجربة وجودية وفلسفية» متجذّرة في عمق الإنسان، لا كأداة خارجية أو تقنية سطحية تهدف إلى تحقيق السعادة، أو الإيجابية السريعة. الضحك بالنسبة لي ليس «وسيلة»، بل طريقة في العيش، والتفكير، والتفاعل مع الحياة، إنه تعبير عن الوعي العميق بالوجود، وعن القدرة على التوازن حتى وسط التحديات، وليس مجرّد استجابة عاطفية مؤقتة.

في المقابل، كثير من كتب التنمية البشرية تقدّم الضحك في شكل «وصفات جاهزة» لتعديل المزاج أو رفع الطاقة، أو جذب السعادة، كأنّ الضحك فعل ميكانيكي منفصل عن التجربة الإنسانية الحقيقية. أما في طرحي، فـالضحك هو فعل حرّ للروح، إنه مساحة لاستعادة إنسانيتنا وسط الضجيج، وتذكير بأننا نملك بداخِلنا طاقة طبيعية للبهجة، مهما كانت الظروف.

مجلة كل الأسرة

  هل يمكننا القول إن «دهشة الضحك والعيش العميق» هو مساحة شخصية لتصالح الإنسان مع ذاته؟

بالتأكيد، يمكن القول إن «دهشة الضحك والعيش العميق» هو مساحة للتصالح مع الذات، بل رحلة داخلية لاستعادة الإنسان الحقيقي فينا، ذلك الإنسان الذي فقدته بفعل الضغوط اليومية والمخاوف المتراكمة. حين نضحك بصدق، نحن في الحقيقة نتحرر من الأقنعة التي تفرضها علينا الحياة الحديثة، ونعود إلى صفائنا الأول، إلى الطفل الكامن فينا، وإلى إنسانيتنا البسيطة التي لم تلوثها الحسابات والمظاهر.

الضحك في جوهره فعل وعي، لا فعل سذاجة؛ هو طريقة للتعبير عن التقبل، وعن الإيمان بأننا قادرون على مواجهة التحديات من دون أن نفقد بريق الروح. ومن خلال تجربتي كـ «مدرّبة معتمدة» في يوغا الضحك بدولة الإمارات، أدركت أن التصالح مع الذات لا يتحقق بالبحث الدائم عن الكمال، بل بقبول النقص، والرضا باللحظة كما هي، بفرحها ووجعها معاً. تجربتي  لم تكن تجربة مهنية فحسب، بل كانت رحلة إنسانية جعلتني أرى الضحك من زاوية جديدة تماماً.

خلال أزمة كوفيد-19، حين عاش العالم حالة غير مسبوقة من العزلة والقلق، شعرتُ بمسؤولية إنسانية ووطنية تدفعني إلى التواصل مع الناس، ومساندتهم نفسياً، فبادرت إلى إطلاق جلسات مجانية لـ«يوغا الضحك» عبر قناتي على «يوتيوب»، ومنصات البث المباشر. كنت أرى كيف يُعيد الضحك التوازن إلى النفوس المنهكة، وكيف يبدّل كيمياء الجسد في دقائق، كان المشاركون يخرجون من الجلسة بابتسامة صادقة، وراحة داخلية عميقة، وهذا جعلني أوقن أن الضحك ليس ترفاً، بل قوة شفاء حقيقية.

الضحك – كما تؤكد الدراسات العلمية – يُخفض مستوى الكورتيزول المسؤول عن التوتر، ويزيد إفراز الإندورفين والسيروتونين، أي هرمونات السعادة الطبيعية في الجسم، إنه ببساطة دواء بلا آثار جانبية، ينعش الجسد والعقل، معاً، ويمنح الإنسان طاقة للتجدد والاستمرار. ومن هنا جاءت فلسفتي في الكتاب: إن الضحك ليس مجرّد ردّ فعل على الفرح، بل فعل وعي ومقاومة للحزن والخوف، الضحك كما أراه هو فن البقاء الإنساني في مواجهة القسوة، واحتفال بالحياة في لحظاتها الصعبة قبل المبهجة.

مجلة كل الأسرة

 من خلال تجربتك ككاتبة من أصحاب الهمم، كيف شكّل الضحك مساحة للحرية والتعبير بالنسبة لك، وأداة لمواجهة التحديات اليومية؟

أعتقد أن الإعاقة لم تكن يوماً قيداً، بل كانت بوابة لاكتشاف طاقتي الداخلية، منذ الطفولة، ولدت بإصابة في يدي، نتيجة خطأ طبي تطلّب سلسلة طويلة من العمليات الجراحية الدقيقة، والعلاج المستمر في السودان، والأردن، ومصر، والإمارات، والنمسا، لكن تلك التجربة لم تُضعفني، بل منحتني منظوراً مختلفاً للحياة. تعلمت أن الألم يمكن أن يكون معلماً، وأن الإرادة هي أعظم ما يمتلكه الإنسان.

الإبداع كان ملاذي الأول، والكتابة هي المساحة التي وجدت فيها حريتي الكاملة، هناك حيث تتحرر الروح من قيود الجسد وتحلّق في فضاء المعنى والخيال، ربما لهذا السبب، وجدت في القلم امتداداً  ليدي التي خضعت لسلسلة من العمليات الجراحية الدقيقة لزراعة الأعصاب، استغرقت كل واحدة منها أكثر من اثنتي عشرة ساعة، بين أنامل أمهر الجراحين، في صقيع فيينا القارس.

ومن بين الألم والأمل، وُلد الحرف دافئاً، يكتب بالعزيمة أكثر مما يكتب بالحبر. فكل سطر خططته كان شفاء جديداً، لا لجسدي فحسب، بل لروحي التي آمنت بأن الكتابة قادرة على تحويل الوجع إلى طاقة حياة، والمعاناة إلى معنى.

كما كان لقائي بالأديب العالمي الراحل الطيب صالح ،في القاهرة، نقطة تحوّل حقيقية في مسيرتي، عندما قرأ بعض نصوصي الأدبية، ومنحني كلمات لا تُقدّر بثمن، إذ قال لي حينها: «لديكِ صوت مختلف… استمري، واهتمي باللغة والنحو، واقرئي ليحيى حقي، فالمستقبل الأدبي ينتظرك»، كانت تلك اللحظة بمثابة إشراقة نور أكدت لي أن الحلم يستحق السعي، وأن الكلمة يمكن أن تكون قدراً جميلاً لمن يؤمن بها.

منذ ذلك الحين، واصلت طريقي في الإعلام والكتابة، متنقلة بين التلفزيون، والصحافة، والإنتاج الإعلامي، قدّمت برامج اجتماعية وشبابية، وكتبت في صحف ومجلات إماراتية، وعربية، ودولية، وأسست مشروعاً يربط الإبداع بالمسؤولية المجتمعية من خلال تصميم إكسسوارات بـ«لغة برايل» لدعم المكفوفين. وفي عام 2022، فزت بالمركز الثاني في مسابقة المقال العربية التي نظمتها «الرابطة الموريتانية للأدب والثقافة»، وهو تتويج لمسيرة بدأت بالحلم، وتواصلت بالإصرار. واليوم، أرى أن التحدّي لم يكن مع الإعاقة، بل مع الأفكار المسبقة عنها. أنا لا أكتب لأثبت أنني تجاوزت الإعاقة، بل لأؤكد أن الإبداع لا يعرف إعاقة أصلاً، وأن الكلمة يمكن أن تكون جناحاً لمن أراد التحليق.

  هل ترصدين اليوم توجهاً من قبل القارئ للبحث عن كتب تُضحكه فقط أم تغيّر من مساره وتقوده إلى آفاق من التفكير الأرحب؟

 أعتقد أن القارئ اليوم لم يعد يبحث عن الضحك من أجل الضحك فقط، بل عن دهشة تلامس روحه، وتفتح أمامه نوافذ للتأمل. العالم تغيّر، والإيقاع السريع للحياة جعل الإنسان في حاجة إلى ما هو أعمق من التسلية العابرة، إلى تجربة فكرية تمنحه لحظة صفاء مع ذاته، وتعيد إليه توازنه الداخلي. فالكتب التي تضحكنا فقط قد تُنسي الهموم مؤقتاً، لكنها لا تُغيّر وعينا، أما تلك التي تمزج بين البسمة والفكرة، فهي التي تبقى لأنها تُحرّك فينا شيئاً أعمق من الضحك (توقاً للفهم، وفضولاً للحياة، وشغفاً بالمعرفة) .

من هنا جاء كتابي «دهشة الضحك والعيش العميق»، ليقول إن الضحك ليس نقيض الجدية، بل بوابة إلى الوعي، فربما لا يحتاج القارئ إلى أن يُضحك فقط، بل إلى أن يضحك ويفكّر، ويكتشف أن لحظة البهجة يمكن أن تكون أيضاً لحظة وعي.