«قصص تشفي... ومستقبل يزدهر»... حكايات ورحلات باللون الوردي مع السرطان
لا تعتبر إصابتها بسرطان الثدي معركة مع الحياة: «هذه نعمة من رب العالمين، أن يختار الله سبحانه وتعالى الشخص الذي يشعر بأنه يستطيع تجاوز هذه الظروف بقوّة شخصيته».
بدأت قصتها في رمضان 2024، حين شعرت بألم شديد استمرّ لقرابة ثلاثة أسابيع، في الجهة اليمنى من صدرها. وتروي بثينة علي: «كان الألم يمنعني من النوم، أو القيام بأيّ من أنشطتي اليومية. توجهت إلى المستشفى لإجراء الفحوصات اللازمة، وهناك أحالوني إلى عيادة مختصة بعد أن أبدوا قلقهم من طبيعة الألم، إذ اشتبهوا في وجود مشكلة خطرة في الصدر».
أجرت الطبيبة الفحص اللازم، وتسرد بثينة تلك اللحظات الطويلة: «نظرت إليّ الطبيبة وسألتني سؤالاً واحداً فقط عن تاريخ وجود سرطان في العائلة، حيث جدتي وخالتي كانتا تعانيان منه. في تلك اللحظة، لم أستطع استيعاب ما سمعته».
وتضيف: «كانت صدمة كبيرة. لم أكن أعرف إلى أين أتجه، ركبت السيارة بسرعة وذهبت مباشرة إلى الدوام. خلال ذلك اليوم، لم أشعر بأي إحساس، وعندما وصلت إلى مقر عملي، شعرت فجأة بالصدمة وكأنني وعيت، بكيت، ولم أشعر بأي إحساس آنذاك، وكنت أردّد لنفسي: الحمد لله في كل حال».
أخفت بثينة الأمر عن أهلها كون الأمر تزامن مع شهر رمضان المبارك: «أخبرت أخي فقط، بعد أن أنهيت فحص الخزعة كي لا أخرّب عليهم بهجة العيد، وبعد العيد، خضعت لفحص شامل وكان برفقتي شقيقي، وقبل أسبوعين من خضوعي للعملية، أعلمت إخوتي وأختي، وأخبرت الوالد والوالدة قبل ثلاثة أيام من العملية فقط، ليكونوا إلى جانبي خلال رحلة العلاج»، موضحة أن «الدعم النفسي والعائلي كان عاملاً أساسياً في تخطي أصعب اللحظات، والشيء الوحيد الذي واظبت عليه كان الصلاة، حيث كنت أدعو ربي أن يمنحني القوة لأستطيع استكمال هذا المشوار».
تلك الحكاية تتشابه مع كثير من حكايات «أكتوبر الوردي»، حيث الاحتفاء بالحياة يفوق أي إحساس باليأس، وهذا ما جسدته مبادرة «قصص تشفي... ومستقبل يزدهر»التي نظمها جناح المرأة في إكسبو دبي وكرانشمومز، بالتعاون مع برنامج الشراكات الاستراتيجية في مستشفى«إن إم سي رويال»، لتسليط الضوء على رحلة ما بعد العلاج في مجالات الصحة، والعافية، والقيادة، والنمو.
فقد غصّ جناح المرأة في إكسبو دبي بالبكاء، دموع انهمرت في غمرة الحكايات، حكايات الصمود ومواجهة المرض بثبات، وسرد المواقف الحزينة، والمواقف التي تنشر الفرح في زوايا القلب. البكاء وحده لا يحل المشكلة، حيث النساء القويات يستعدن عافيتهنّ، ويعُدن للحياة الطبيعية بعد مرحلة تعافٍ ولو كانت طويلة.
باري باتن وجنيفر كروس، ناجيتان من سرطان الثدي، قدمتا شهادتيهما، وقدمتهما دينا بطي التي اغرورقت عيناها بالدموع وهي تذكر والدتها التي واجهت السرطان وهزمته، أكثر من مرة.
دروس من التجربة القاسية
في تلك المساحة كما مساحات أخرى، كان مرض سرطان الثدي هو محور الحديث. توجه باري رسالتها للمرأة: «سأقول إنني هنا من أجلك، إذا احتجت إليّ. أفكر فيك، ومن الهام أحياناً أن نقول ذلك. ليس من الضروري أن يردّ الشخص الآخر، فالكلمات ليست مطلوبة دائماً، لأن مجرد التفكير فيه يكفي ليبقيه حاضراً في الذهن. لقد كنتُ أنا نفسي تحت ضغط كبير، أخيراً، وحاولت أن أحافظ على توازني. وقررت أن أسمح لنفسي بأن أكون أكثر إنسانية، أن آخذ قسطاً من الراحة، وأن أعتني بنفسي قليلاً. وخلال الصيف، كان بعض أصدقائي يخضعون للعلاج الكيميائي، فحاولت أن أستدعي لهم بعض الفرح بفعل أشياء بسيطة، مثل الاستيقاظ باكراً، أو القيام بأعمال يدوية صغيرة. كنتُ فقط أحاول أن أخلق لحظة جميلة، وسط كل ما هو صعب».
وتسأل جنيفر عمّا إذا جسدها خذلها، تقول: «كنت أشعر بأن جسدي خذلني، وكنت أتساءل: لماذا أُصبت بسرطان الثدي؟ ولكني اليوم أؤمن بأن السبب في إصابتي كان التوتر والقلق الناتج عن الظروف التي كنت أعيشها. لكن الجانب الإيجابي الذي خرجتُ به من التجربة هو أنني أصبحت أتنفس بعمق، ولا أرهق نفسي بالأشياء الصغيرة، أحاول أن أكون هادئة، وأصبحت أكثر وعياً عندما أتعرّض للتوتر في مواقف لا تستحق القلق في الواقع».
تعمل خبيرة التحول الشخصي في شركة «سبارك باك»، أي عودة البريق، هوازن خطايبة، على مرافقة السيدات اللواتي يعشن مرحلة انتقالية في حياتهنّ، بعد تجارب غيرت مسارهن، كالإصابة بالسرطان، أو فقد عزيز، أو توقف مهني قسري: «أعمل مع السيدات اللواتي مررن بحدث أثّر في حياتهنّ بشكل قد يبدو في ظاهره سلبياً، لكنه في العمق يحمل طاقة تحوّل إيجابية كبيرة. فبعد أن كنّ ناجحات في أعمالهنّ، واجهن محطات جعلتهنّ يُعِدن النظر إلى أنفسهنّ وإلى الحياة بطريقة مختلفة. دوري هو مساعدتهن على إعادة اكتشاف مهاراتهنّ ونقاط قوتهنّ، والنظر إلى ذواتهنّ من زاوية جديدة، أكثر قوة وامتلاء».
الهوية… نقطة الانطلاق نحو التعافي
في جلساتها، لا تركز هوازن على الضعف أو الخسارة، بل على الضوء الذي يمكن أن ينبثق من قلب التجربة، حيث «كل امرأة تحمل في داخلها شرارة يمكن أن تعيد إشعال بريقها، مهما كانت الصعاب، وحين تدرك المرأة أن التجربة التي مرت بها لم تُطفئها، بل صقلتها، تبدأ رحلتها الحقيقية نحو الشفاء الداخلي واستعادة البريق».
إذن، ترتكز الفكرة الأساسية على الهوية، وتنطلق هوازن من سؤال جوهري: كيف ترى المرأة نفسها؟ وكيف ترى الآخرين والحياة من حولها؟
توضح هوازن: «أبحث مع المرأة عمّا تركز عليه، وما تستمد منه قوتها، وكيف ينعكس ذلك على تعاملها مع نفسها، ومع الآخرين. ومن أبرز البصمات التي طبعتها تجربتي مع السيدات المتعافيات من السرطان هو اكتشاف التناقض بين مظاهر القوة الظاهرة، والمشاعر الخفية في الداخل. ففي بعض الحالات، تبدو السيدة قوية إلى حد خارق، لكن خلف هذه القوة قد يختبئ خوف عميق من الضعف، أو من فقدان الصورة التي اعتادت أن تظهر بها أمام الآخرين. كثيرات يقلن: أنا تعودت أن أكون مصدر الأمان لمن حولي، ويجب أن أظل قوية. هذه القوة أحياناً تكون درعاً تحميها من الانهيار، لكنها أيضاً حاجز يمنعها من التعبير عن ألمها الحقيقي».
وتؤكد أن لحظات الإصابة بالسرطان، أو الفقد، أو أي تجربة جذرية، تشكل ما يشبه الإعصار النفسي الذي يعصف بكل ما هو مألوف، ويجعل الإنسان يعيد النظر في كل تفاصيل حياته: «بعد الصدمة، تبدأ مرحلة البحث. تعود المرأة إلى استرجاع شريط حياتها، تتساءل: ماذا فعلت طوال حياتي؟ ما الذي أريد أن أفعله الآن؟ فيتداخل الماضي بالحاضر، ويصبح المستقبل مشحوناً بمزيج من الحزن، والحنين، والخوف من المجهول".
هذه المراجعة الداخلية، رغم ألمها، تشكل الخطوة الأولى نحو إعادة بناء الهوية على أسس جديدة، أكثر نضجاً وصدقاً: «حين تدرك المرأة أن ما فقدته هو بداية شكل جديد للحياة، تبدأ رحلة التعافي الحقيقية».
لا يعّد السرطان معركة ضد الجسد فقط. بل يمكن التنبه إلى أنّه يشكل «رحلة نحو الذات، ونحو فهم أعمق للحياة يعيد فيه الإنسان تعريف ما يريده، وما يقدّره، ومن أين يستمدّ نوره الحقيقي».
إعادة توجيه البوصلة نحو الداخل
هذا ما تعمل عليه الدكتورة أريج خطايبة، مختصة بعلم النفس والمديرة التنفيذية «سبارك باك»، التي تصف المرحلة التي تمرّ بها السيدات بعد التجارب الصادمة بأنها من أصعب وأعمق المراحل في حياتهنّ، إذ تتقاطع فيها أشدّ السيناريوهات الماضية ألماّ مع أكثر السيناريوهات المستقبلية غموضاً وحزناً.
تقول: «إنها مرحلة دقيقة، تتداخل فيها مشاعر الخوف من المجهول مع ثقل ما مرّت به المرأة في الماضي. في هذه المرحلة نركّز على الحاضر، على ما يحدث الآن، وعلى ما نشعر به في هذه اللحظة تحديدًا»، موضحة أن «الهدف في هذه المرحلة يرتكز على إعادة توجيه البوصلة نحو الداخل، أي أن تتعلم المرأة الإنصات إلى ذاتها مجدداً، لتتعرف إلى مشاعرها بصدق، وتستعيد اتصالها الحقيقي بحياتها الداخلية».
وتشرح د.أريج المنهج الذي تعتمده في عملها: «الأسلوب الذي أتبعه هو مزيج من ممارسات متعدّدة؛ فهو يستند إلى علم النفس، وإلى تنمية المهارات الحياتية، ويستفيد من مبادئ عالم الأعمال، ومن النظرة الوجودية للحياة. فالإنسان ليس بعداً واحداً، بل كيان متكامل يحتاج إلى ملامسة جميع جوانبه في رحلة التعافي».
وعن مرحلة الدعم النفسي، تشير المختصة النفسية إلى «أن النساء في بداية رحلتهن نحو التعافي لا يحتجن إلى دعم الآخرين، بقدر حاجتهنّ إلى الهدوء والسكينة الداخلية، كما تحتاج المرأة إلى مساحة من الصمت والهدوء بعيداً عن ضوضاء الخارج. لذلك نبدأ أحياناً بعزلها عن محيطها لمساعدتها على إيجاد المكان الذي يمنحها الراحة. ففي تلك المرحلة، تكون الأصوات المحيطة بها مصدر إزعاج، أكثر منها مصدر طمأنينة».
هذه العزلة المؤقتة تُمهّد لمرحلة النهوض الهادئ: «تبدأ المرأة تدريجياً بإعادة بناء توازنها النفسي، وتستعيد قدرتها على التواصل، مع نفسها ومع العالم من حولها، بسلام وثقة»، حيث تروي لحظة مؤثرة عاشتها مع إحدى السيدات المتعافيات، حين قالت: «هذا الوقت الوحيد الذي كنت أتحدث فيه مع ربي».
وعن أصعب موقف واجهته في حياتها العملية، تتوقف د.أريج قليلاً وتقول بهدوء عميق: «أصعب تجربة لم تكن مع إحدى المريضات، بل كانت في حياتي الشخصية. زوجي هو متعافٍ من السرطان. عندما تقدم لخطبتي، كان الأطباء قد أخبروه أنه قد يعيش عشر سنوات فقط، فقال لي: هل ترغبين أن تعيشيها معي؟ فأجبت من دون تردّد: نعم، لأن العمر لا يعلمه إلا الله، ولأن الحياة ليست بطولها، بل بما تحمله من عمق وتجربة إنسانية».
وتتابع: «كانت رحلة مملوءة بالتحدّيات، لم تكن سهلة أبداً، لكنني رأيت فيها وجوهاً متعدّدة للمعنى. في لحظات كثيرة كنت أنا الأضعف، وهو من يمنحني القوة. أدركت أن السرطان ليس شيئاً نخجل منه، أو نختبئ بسببه، بل هو في جوهره تعبير عن ضغوط الحياة، وفرصة لإعادة برمجة نظرتنا إلى الوجود، ومعنى الحياة ذاتها. ونحن الآن في السنة الثالثة عشرة لزواجنا».
* تصوير: سيد رمضان
