رنيم الحلقي: أفتح مساحات أمام الجمهور للتفاعل مع الحرف عبر الصوت

في تجربتها الفنية، تبحر المصممة والفنانة رنيم الحلقي في عوالم الحرف العربي، الذاكرة، والهوية، متنقلة بين التصميم الغرافيكي والفن التشكيلي، وبين المدن والفضاءات الثقافية التي شكّلت مسيرتها. أعمالها لا تكتفي بكونها بصريات جمالية، بل تتحوّل إلى حوارات بين الماضي والحاضر، بين الفرد والجماعة، وبين الانتماء والعبور. ولطالما شكّل فن التايبوغرافي محوراً أساسياً في ممارستها، إذ تعتبر الحرف صوتاً بصرياً، وذاكرة وظلّاً لمكان، وتوظفه كعنصر معاصر وتجريبي يتقاطع مع الهوية الثقافية، والشعر، والحكاية.

في هذا الحوار، تكشف رنيم الحلقي «لكل الأسرة»، أسرار عبورها بين المدن والثقافات الذي جعلها ترى الهوية كنسيج متداخل، حيث تتحوّل التجارب الشخصية إلى مساحة تتقاطع فيها قصص الأفراد مع الذاكرة الجماعية، لتقدم تجربة فرية في معرضها الأخير «خيوط بينية»، بدعم من مؤسسة تشكيل.

ما الذي يمثّله فن التايبوغرافي بالنسبة لك؟
لطالما شكّل فن التايبوغرافي محوراً أساسياً في ممارستي، لكنني أتعامل معه أكثر من مجرّد أداة للتواصل البصري. الحرف بالنسبة لي هو صوت بصري، ذاكرة، وظلّ لمكان. أستكشف من خلاله البعد السردي والعاطفي، وأوظّفه كعنصر معاصر وتجريبي يتقاطع مع الهوية الثقافية، الشعر، والحكاية. وعملي، التايبوغرافي ليس مجرد تقنية تصميمية بل تجربة حسية وجماعية قائمة على العملية والبحث. أدمج بين منهجيات التصميم الممنهجة، وبين ممارسات فنية معبّرة، لأفتح مساحات جديدة أمام الجمهور للتفاعل مع الحرف عبر الصوت، المادة، والذاكرة. اللغة بالنسبة لي جزء أساسي من الجذور والأصول؛ هي التي تحفظ الذاكرة، وتربطنا بالمكان والانتماء. لذلك أتعامل مع الحرف العربي كجسد متحوّل قادر على حمل قصصنا، وأماكننا، وانتماءاتنا، في صور جديدة ومتجدّدة. بهذه الطريقة يظل الحرف حيّاً ومعاصراً، حتى في ظل سيطرة الوسائط الرقمية، لأنه يظل يحمل جوهرنا الثقافي، وصوتنا الجمعي.

كيف أثّر عبورك بين المدن والثقافات في ممارستك الفنية؟
هذا العبور جعلني أرى الهوية كنسيج متحوّل، متداخل، ومفتوح دائماً على الاحتمالات. في أعمالي، يظهر هذا في اهتمامي بالذاكرة، والهجرة، والسرديات الشفوية، حيث تتحوّل التجربة الشخصية إلى مساحة أوسع تتقاطع فيها قصص الأفراد مع الذاكرة الجماعية. أتعامل مع الانتقال والتجوال كحالة إبداعية بحد ذاتها، وكمنهج بحثي وفني يفتح المجال لاكتشاف أشكال جديدة للتعبير والانتماء. كل مدينة عبرتُها أضافت طبقة جديدة إلى عملي، وكل عبور كان بمثابة مرآة أعيد من خلالها صياغة علاقتي بالمكان، وبالفن نفسه. نشأت في جدّة، وهذه المدينة تشكّل جزءاً أساسياً من طفولتي، ومن حكايتي، فهي ذاكرة لا تنفصل عن باقي الأمكنة التي عبرتها. أما اليوم، فإن الإمارات، وخصوصاً دبي، هي الحاضر بالنسبة لي، المكان الذي أعيش وأعمل فيه، وأطوّر من خلاله ممارستي الفنية. وبين هذه الجذور يتواصل العبور والسفر إلى الخارج، حيث شكّلت تجاربي الدولية أيضاً امتداداً يثري عملي، ويمنحه أفقاً أوسع للحوار والانتماء.

ما هو دور مؤسسة «تشكيل» في دعم الفنانين الشباب؟
توفر «تشكيل» بيئة آمنة ومحفزة، تتيح للفنانين والمصممين في الإمارات أن يختبروا أفكارهم، ويطوّروا أدواتهم الإبداعية. فهم يؤمنون بأن منح الفنان الوقت، والدعم المادي، والإرشاد المهني هو ما يساعده على بلورة صوته الفني الخاص. فقد تمكنت من خلال البرنامج من الممارسة النقدية، والتعمق في بحثي وإيجاد لغة بصرية وصوتية جديدة، تعبّر عني وعن مجتمعي.
ما الذي جذب «تشكيل» إلى دعم مشروع «نسيج من الارتحال» تحديداً؟
صدقه الإنساني، وعمقه البحثي. العمل لا يستحضر ذكريات شخصية فقط، بل يحوّلها إلى تجربة جماعية ترتبط بالهوية، والذاكرة، والبحث عن الانتماء. فقد استطعت أن أجعل من التفاصيل الصغيرة – كصوت المروحة أو ملمس البطانية – جسوراً بين الماضي والحاضر، وبين الخاص والعام. هذه القدرة على تحويل التجربة الشخصية إلى لغة فنية مشتركة هي ما جعل المشروع يستحق أن يرى النور عبر «تشكيل».
الذاكرة والحنين يبدوان حاضرين بقوة في أعمالك، كيف توظفينهما؟
في مشاريعي السابقة، مثل حوارات عبر الزمن، 50 متراً من قصص أميّة، أصوات مكبلة، ومضات الذاكرة الأبدية – أجراس المدينة، لطالما كان هناك صوت فاعل يربط الماضي بالحاضر. وبالنسبة لي، الحنين ليس مجرد استرجاع للماضي، بل وسيلة لمقاومة المحو، والتشبث بالجذور، والقصص الشفوية التي شكّلت هويتنا. أستخدم الذاكرة والحنين كأدوات للبقاء في الحاضر، وبناء المستقبل، حيث يتحوّل الماضي إلى مادة للتفكير النقدي، والإبداع المعاصر. وفي النهاية، العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل ليست مفصولة، بل متشابكة ومترابطة، وكل عمل عندي يحاول أن ينسج هذا الخيط المستمر الذي يحمل معه أثراً، وصوتاً جديداً.

كيف تنظرين إلى التوازن بين التصميم الغرافيكي والفن التشكيلي في عملك؟
التحدّي ليس في الفصل بين التصميم الغرافيكي والفن التشكيلي، بل في كيفية مزجهما بطريقة تُغني كل مجال بالآخر. أركز كثيراً على العملية والتجريب، لكن أيضاً على السرد والبحث، بحيث يصبح كل مشروع مساحة للتعمّق والاكتشاف. وأستفيد من مهاراتي في التصميم لتطوير ممارستي الفنية، وفي المقابل، أنقل المنهج التجريبي والبحثي من عملي الفني إلى مشاريعي التصميمية، ما يجعلها تتجاوز المألوف، وتكتسب بُعداً أكثر استمرارية، وزمناً. التوازن هنا ليس معركة بقدر ما هو مساحة خصبة، حيث تتقاطع المنهجية مع العفوية، ويتداخل البحث مع القصة، لينتج عن هذا التلاقي لغة بصرية معاصرة مفتوحة على احتمالات جديدة.

ما الرسالة التي يسعى معرضك الأخير إلى إيصالها؟
المعرض يفتح أسئلة حول معنى البيت والانتماء، وحول العبور المستمر بين أماكن متعدّدة. الهدف أن يخرج الجمهور وهو يحمل أسئلته الخاصة، وتأملاته الشخصية، لتصبح التجربة مساحة للحوار والتفكير. في الوقت نفسه، يشكّل المعرض فعلاً من أفعال المقاومة ضد محو الجذور، والثقافة، والأصول، ومحاولة للحفاظ على الذاكرة وإعادة إحيائها، بحيث يبقى الفن وسيلة للتشبث بما يظل ويستمر، ولإعادة نسج الحكايات كي تبقى حاضرة في الوعي الجماعي.