05 أكتوبر 2025

سارة المهيري: كل عمل فني هو محاولة لفهم شيء

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

تتسع حدود الفن كلما ضاق الواقع بتعقيداته، ويتحول العمل الفني من كائن بصري إلى حقل بحثي حيّ، تُمارَس فيه الأسئلة، بقدر ما تُنتَج فيه الأجوبة. داخل هذا الحقل المفتوح، تزهر تجربة الفنانة الإماراتية سارة المهيري، التي لا تكتفي بتأمل العالم، بل تعيد كتابته بلغتها الخاصة، عبر وسائط تتقاطع فيها الرياضيات مع الشعر، والهندسة مع الذاكرة، واللغة مع الفراغ.

في هذا الحوار، تكشف سارة المهيري لقراء «كل الأسرة» ملامح المسار الفني الذي تبنيه هذه الفنانة الملهمة، عبر مشهد بصري لا يكفّ عن الحركة:

مجلة كل الأسرة

كيف تصفين رحلتك منذ التخرج في جامعة نيويورك أبوظبي وحتى تمثيلك اليوم من قِبل «كاربون 12»؟

كانت الرحلة ممتعة، عميقة، ومملوءة بالدروس. كل خطوة فيها من النجاحات إلى التحدّيات أسهمت في صقل شخصيتي كفنانة. فقد منحتني جامعة نيويورك، أبوظبي، أساساً صلباً ليس على المستوى التقني فقط، بل أيضاً على الصعيد «المفاهيمي»، تعلمت أن أفكر نقدياً تجاه ممارستي الفنية، وأن أُخضع الأفكار للفحص والتأمل قبل تحويلها إلى أعمال.

أما بالنسبة إلى تمثيلي من قبل «كاربون 12»، ففي نهاية السنة الدراسية الأخيرة، زار ممثلو «كاربون 12» استوديوهاتنا، وهناك التقيت بهم لأول مرة. وبعد فترة قصيرة، تلقيت فرصة لعرض مشروعي الفني في صالتهم، وكانت تلك لحظة محورية، أعتبرها الشرارة التي أطلقت مسيرتي فعلياً. من بعدها، واصلت عملي الفني بانضباط، وانضممت إلى زمالة «الفنانين الصاعدين» من مؤسسة الشيخة سلامة، وبقيت على تواصل دائم مع المشهد الإبداعي المحلي. كل هذه التجارب ساعدتني على النمو، وفتحت أمامي أبواباً جديدة، ومنحتني دعماً دفعني إلى تجاوز الحدود التقليدية في عملي، والتعمّق أكثر في اللغة البصرية الخاصة بي.

مجلة كل الأسرة

ما الدور الذي لعبه الشعر في تشكيل رؤيتك الفنية؟

الكتابة، والشعر تحديداً، كانت دائماً جزءاً أصيلاً من ممارستي. أكتب لأفهم، لأفكّر، لأربط. أحياناً تبدأ الفكرة من سطر شعري، أو كلمة معلقة في ذهني، تتحول لاحقاً إلى تركيب بصري. أستخدم الكتابة كأداة للبحث، كمساحة لصياغة العناوين، ولتجميع اللغة التي قد تصبح جزءاً من العمل نفسه. فأنا أميل إلى الشعر لأنه يمنحني حرية اللعب بالبنية والدلالة. هذه الطبيعة المجرّدة وغير الخطية تتماشى كثيراً مع عناصر التجريد الموجودة في أعمالي الفنية. بين النص والصورة، هناك حوار دائم، وأنا أجد نفسي دائماً في هذه المساحة الرمادية بينهما.

كيف توازنين بين الإلهام البصري الدائم وسرعة التغيّر في مدينة متطورة مثل أبوظبي؟

أعيش في مدينة تتحرك بسرعة، لكن عملي الفني يسير بإيقاع مختلف، أبطأ، أكثر تأملاً. كثير من أعمالي تتمحور حول مفهومَي التوازن والإيقاع، لذا من المثير أن أكون محاطة بهذا التغيّر السريع، بينما أُبطئ الزمن داخل الاستوديو. ورغم أنني أستلهم من محيطي من العمارة، الضوء، وحتى التحولات البسيطة في الشارع، إلا أنني أجد في هذه التفاصيل الدقيقة مصدر إلهام أكبر من الأحداث الكبيرة. الانتباه لتغيّر لون الحائط مع الشمس، أو حركة الظل، أو تحول في نغمة المدينة... كل هذه مشاهد يومية تشكّل طبقات غير مرئية داخل العمل الفني.

مجلة كل الأسرة

هل تعتقدين أن لهويتك الوطنية دوراً في تشكيل تجربتك الفنية ومنحك مساحة للتجريب؟

بلا شك. لكوني إماراتية، وكبرت في بيئة داعمة للفنون، جعلني أشعر بالمسؤولية والرغبة في تقديم شيء صادق يعكس ذاتي ومجتمعي، هذا لا يعني أن أعمالي تتحدث عن الهوية بشكل مباشر، بل إن تأثيرها متجذّر في الخلفية، في المساحة التي أُعطيت لي كي أُجرّب، وأتساءل، وأخطئ، وأكتشف.

كيف تنظرين إلى دعم المؤسسات والمجتمع المحلي لمسيرتك الفنية؟

لقد كنت محظوظة جداً بالدعم الذي تلقيته، ولا أزال أتلقاه، سواء من المؤسسات الرسمية، أو من الفنانين والمبدعين حولي. هذا الدعم لم يكن على شكل فرص عرض، أو دائرة علاقات فقط، بل كان أيضاً دعماً إنسانياً عبر الحوار، والنقد البنّاء، والتشجيع المستمر، فأنا أشعر بأنني أسهم، بجانب فنانين آخرين من جيلي، في رسم ملامح مشهد فني إماراتي معاصر، متعدّد، وغني.

من أكثر اللحظات التي أعتز بها كانت في 2020، حين أطلقت مبادرة «Artist Talks»، وهي سلسلة جلسات مباشرة عبر الإنترنت، حاورت خلالها فنانين، محليين وعالميين. في تلك اللحظة الصعبة من العزلة، شعرت بقوة المجتمع الإبداعي، وبأهمية الحوار والتوثيق.

أودّ أن يكون العمل انعكاساً لتجربتي ومجتمعي، وفرصة لعرض الفن المعاصر الإماراتي ضمن سياق عالمي

لو تعاونتِ مع علامة تجارية عالمية، ما الرسالة التي ترغبين في إيصالها من خلال هذا الدمج؟

أول ما يخطر في بالي هو أهمية الحفاظ على الصدق الفني. في حال تعاونت مع علامة تجارية عالمية، أرغب في تقديم عمل يمثّلني بعمق، من دون أن أضطر إلى تكييفه ليتماشى مع متطلبات السوق فقط.
أودّ أن يكون العمل انعكاساً لتجربتي ومجتمعي، وفرصة لعرض الفن المعاصر الإماراتي ضمن سياق عالمي. أؤمن بأن الفن يمكن أن يكون جسراً لا إعلاناً، صوتاً لا صدى. وأتمنى أن يُسهم هذا النوع من التعاون في فتح حوار بين الثقافات، بدلاً من مجرّد تصدير صورة جاهزة.

لو كان عليكِ تحويل إحدى لوحاتك إلى تجربة سمعية فقط، أيّ عمل ستختارين؟ ولماذا؟

أعتقد أنني سأختار عملي «Shared Motion»، الذي قدمته ضمن جائزة ريتشارد ميل للفن، في اللوفر أبوظبي. هذا العمل يحتوي على حركة داخلية، على إيقاع غير مرئي، كان يمكن دائماً أن يتحول إلى صوت.

الصوت وسيط، بدأت أعمل على استكشافه، أخيراً، بشكل أعمق، وقد درسته خلال الجامعة ضمن دورة متخصصة في «فن الصوت». يهمني أن أجرب تحويل النصوص الشعرية التي أكتبها إلى تردّدات صوتية، كأن تُروى بدل أن تُقرأ، أو تتحول إلى تجربة حسّية كاملة.

ما التحدّي الفني الذي تخشينه أكثر من غيره؟

البداية دائماً. لحظة البدء هي الأصعب حين يكون كل شيء مفتوحاً، وكل شيء ممكناً. وغالباً ما أكون قد تصوّرت العمل مسبقاً في ذهني، لكن التنفيذ يفرض تحدّيات جديدة. هناك دائماً قلق من ألّا يرقى العمل إلى الخيال. مع ذلك، تعلّمت أن أحتضن هذا القلق. ففي كثير من الأحيان، يولد الإبداع الحقيقي من عدم اليقين، من لحظات التخلي عن السيطرة.

مجلة كل الأسرة

ما مشاريعك الحالية والمستقبلية؟

أعمل حالياً على توسيع سلسلة «Off-Centered»، وهي أعمال تستكشف العلاقة بين النحت والرسم، بين الفراغ والكتلة، وبين النظام والخلل. أحاول أن أختبر كيف يمكن لهذه الأعمال أن تتفاعل مع المساحة بشكل جديد، وأن تتحرر من الحائط وتتحول إلى تجارب ثلاثية الأبعاد.

سأعرض هذه الأعمال في معرض «فن أبوظبي» في نوفمبر المقبل، وأتطلع إلى مشاركة هذا التطور مع جمهور أوسع. كذلك، أعمل على مشروع طويل الأمد يجمع بين الضوء واللغة، وربما يمتد لاحقاً إلى فضاءات معمارية، أو صوتية.

وفي الختام، كيف تلخّصين رؤيتك لمسيرتك الفنية اليوم؟

لا أؤمن كثيراً بالوصول، بل بالاستمرار. ما يشغلني ليس تحقيق هدف معين، بل الحفاظ على مساحة التجريب والاكتشاف. كل عمل فني هو محاولة جديدة لفهم شيء ما في العالم، أو في داخلي. وما دام هناك هذا الفضول، فإن الرحلة مستمرة... وهذا هو الأهم.