قد يكون السفر مغامرة يعايش فيها البعض عوالم مغايرة، ويطّل على ثقافات جديدة، بيد أنه يبقى لدى البعض سفراً عابراً، و«تغيير جو»، لا يحفر في الذاكرة، ويهادنها من بعيد.
في حكاية عبد الواحد محمد البلوشي، الكثير من المغامرة، وحب الاستكشاف، والأهم التواصل الإنساني الذي يطبع معظم رحلاته، بحيث تكون أشبه برحلة استكشافية لأعماق الإنسانية، والبحث عن بقعة الجمال المختبئ في ثنايا الوجوه المتعبة.
الرحّالة البلوشي يعتبر أول عربي، وأول شخص في العالم يصل بالكرفان إلى معبر ومحمية واخان، حيث الحدود الصينية -الباكستانية، بشهادة موثقة من وزارة الإعلام والثقافة في أفغانستان، ودليل السياحة في بدخشان، وتقع هذه المحمية في ولاية بدخشان شمال شرق أفغانستان.
يهوى «أبو سلطان» السفر الاستكشافي، ما دفعه إلى الوصول إلى النرويج بالكرفان منذ 2009، وكذلك إلى البوسنة، وألبانيا، عبر الحدود الإيرانية -التركية، كما وصل إلى موقع صخرة كجيراج بولتن في النرويج، وهي صخرة معلقة بين جبلين في مقاطعة جالاند، جنوب غرب النرويج، وعلى ارتفاع 1110 أمتار، وإلى أوغندا وألاسكا بحيث وصل إلى أبعد نقطة في الشمال الأوروبي، في مدار القطب الشمالي.
رغم كل هذا البعد المغامراتي الذي يجذب الناس، لا يسوّق «أبو سلطان» لنفسه في وسائل التواصل الاجتماعي «الكثير يسألونني عن عدم استعراض رحلاتي بالدراجات والكرفان عبر الـ«سوشيال ميديا»، ويكون جوابي واضحاً وهو أنني أسافر لأستمتع باللحظة، وليس بهدف النشر والشهرة».
ويروي «أذكر أن صديقي كان يلومني على اختياري هذا التوجه، بحيث إنّ من يسمّيهم «أبطال الإنستغرام» لا يقدمون ربع المضمون الذي يمكن أن أقدمه، ولكني آثرت أن أعيش اللحظة، وأستمتع بها قدر الإمكان، وحتى أني أجريت نقاشاً مع أحد مؤثري الـ«سوشيال ميديا» لديه ملاييين المتابعين، وعندما اطلّع على «ذخيرة» السفر التي أمتلكها اعترف بأنه لم يقم بنصف تجاربي».
لا يعترف بلقب، أو شعار عبر خاصية الإنستغرام، هو «عبد الواحد فقط»، إنسان يرغب في اكتشاف عوالم أخرى والاستمتاع باللحظة.
حتى الآن، زار عبد الواحد 115 دولة، حيث يمتزج شغفه بالاستكشاف، بالرغبة في التواصل البشري، لتصبح الطرقات، والمنعرجات، والمفترقات، والأنهار، والجبال، منصة للقاءاته الممتعة، وتماسّه مع الآخر الذي يجهله إلى حين التواصل معه، ولو بـ«لغة الإشارة»: «أغلب هذه الدول سافرت إليها بالسيارة، وكنت أغطي أغلب مناطق هذه الدول، ولا أمكث في مدينة واحدة فقط».
بسيارته، يحمل زوادته من القصص والذكريات عند كل محطة، لينطلق في مغامرة جديدة.. يشرح عبد الواحد «لطالما كان السفر بالسيارة دائماً وأبداً، فهي الوسيلة الأفضل للاستكشاف، وبمجرد أن نقول «استكشاف» فهذا يعني مغامرة جديدة، حيث قلّة وصلت إلى تلك البقعة قبلي، أو أكون أول الواصلين إليها، كما حدث في محمية واخان».
في رحلتي الدولية الأولى، كان المخطط الوصول إلى الأردن، وحب الاستكشاف قادني إلى إسطنبول
يروي لنا بداياته «كنت أخرج في رحلات داخل الدولة في عمر 14 عاماً، لاكتشاف مناطق سياحية جديدة، وطرق مختصرة في الصحراء، وكنت دوماً الدليل لأصحابي في رحلاتنا، في حين انطلقت خارج الدولة برحلات استكشافية عام 1991 وكان المخطط للرحلة هو الوصول إلى الأردن، إلا أنّ حب الاستكتشاف أوصلنا إلى إسطنبول».
إذن، هو حب الاستكشاف، والمعرفة، والمغامرة، والفضول، عوامل دفعته إلى أن يحط رحاله في كل بلد، ويتعلم من ثقافات مختلفة، ويشارك في تجارب حياة تثري روحه، وتعمّق فهمه للعالم، يوضح «أتّبع استراتيجية خاصة في اختياري للوجهات، لكوني مولعاً بتصفح الخرائط، واكتشاف تضاريس المناطق في أوقات فراغي، لأشرع في البحث عن طريقة الوصول إلى هذه المناطق ووضع الخطة اللوجستية لكيفية الوصول، والوسيلة الأفضل للسفر، حيث كنت أسافر أحياناً بالسيارة، وأحياناً أخرى بالدراجة ومؤخراً، بالكرفان».
فالسفر والاكتشاف بالكرفان مع العائلة جزء من مخططاته، يقول «الأولوية للسفر مع العائلة إلا أن بعض الأسفار تواجهها بعض العوائق التي أحاول تذليلها، وصعوبات لوجستية على الأرض، وبعضها يرتبط بندرة المعلومات عن بقعة جغرافية ما، فأحاول استكشافها بنفسي، أو مع أصدقائي، وبعدها اصطحب العائلة في أجواء أكثر استقراراً لها».
عبد الواحد ليس مجرد مسافر ينتقل من بقعة إلى أخرى، يمكن اعتباره سفيراً للتواصل بين الشعوب والثقافات، حيث يستقي من السفر نمطاً آخر من التفكير، وفتح آفاق من الحوار مع «الآخر»، كما يوضح «التعامل مع الناس والشعوب المختلفة يبنى على احترام الشخص، ومعتقداته، وثقافته. وكمسلمين، علّمنا ديننا آداب وأخلاق التعامل مع الناس، فإذا التزمنا بها فهي دليلنا في التعامل مع الغير، وأوصى ديننا بالابتسامة وهي ذات وقع في قلوب الناس وفي ردود أفعالهم».
فماذا تعلّم عبد الواحد من تجارب السفر؟ يجيب «علمّني السفر الكثير. فقد علّمني أنّ دوام الحال من المحال، حيث كنت على تماس مع الشعوب والحضارات التي كانت أفضل منا، وتتقدمنا في جميع المجالات، وكيف أصبحت في الحضيض، وعايشت الشعوب التي كانت تعتبر وحشية وهمجية، وكيف أصبحت من أكثر الدول أمناً».
فتح السفر أمامه مساحات للتفكير في «الآخر»، كما شكر النِّعم «علّمني السفر فضل ونعمة رب العالمين علينا، حين أرى حال من هو يكدح ويعمل ليكسب لقمة عيش تعادل دراهم معدودة، كما علمني أن أغتنم الفرص للتعلّم ممن سبقنا في أي من مجالات الحياة».
كل خطوة في السفر هي درس جديد بالنسبة إلى هذا المغامر الذي لا يأبه بالألقاب بقدر ما يولي الاهتمام لروح المغامرة، وتفاصيلها، وكيفية معايشتها «فالتحديات في السفر كثيرة، أولها كان شحّ المعلومات في البدايات مع عدم انتشار الشبكة المعلوماتية، وغياب أجهزة الملاحة، وكان الاعتماد الأول والأخير، على الخرائط الورقية. ومع صعوبة ووعورة الطرق في ذلك الزمن، كانت الأعطال الميكانيكية أحد التحديات، إضافة إلى صعوبة التواصل اللغوي مع الشعوب».
ذلّل الشغف تلك التحديات، يعقبّ عبد الواحد «حب الاطّلاع كان الدافع للوصول إلى الحلول والتعلّم، فأصبحت مولعاً بقراءة الخرائط، وأتعامل مع الناس، و«لو بالإشارة»، فالأهم في نجاح التجربة أن يتعلّم الفرد، ويركّز على إيجاد الحلول، وليس على المشكلة».
ثمّة مواقف كثيرة عايشها عبد الواحد خلال السفر، منها المحزنة، ومنها السعيدة: «مواقف لا تنسى واجهتني في كثير من الدول، وهي معاناة الأطفال للوصول إلى المدارس، ومدى الألم لرؤية أطفال يسيرون على أقدامهم مسافة ٧ كلم في البرد القارس للوصول إلى مدرستهم، ومن ثم العودة للمنزل وقطع المسافة نفسها، ولا أنسى ملامح وجوههم المتجمدة من البرد، وأحذيتهم المهترئة، جراء المسير اليومي على أقدامهم».
يروي «في إحدى المرات، اصطحبت مجموعة من الأطفال في سيارتي لإيصالهم إلى المدرسة لأكتشف أنّ المسافة تفوق الـ 15 كلم. أتمنى في يوم أن أكون سبباً في التخفيف من معاناة هؤلاء الأطفال».
خلال يومه، يتنقل عبد الواحد من مكان إلى آخر، استكشافاً ومعايشة، ويتخلل هذا التنقل جلسات استراحة واستمتاع بطبيعة المنطقة «فالروتين غير موجود في حياتي اليومية في السفر، وكل يوم يحمل طابعاً خاصاً به».
ويعقّب «البعض يرى في طريقة سفري نوعاً من الجنون، والبعض يرى أنها تعب ومعاناة والبعض الآخر يصوّرها كمخاطرة، وإلقاء بالنفس إلى التهلكة، ولكني، في الواقع، أستمتع إلى أقصى حد، وبين فترة وأخرى تتخلل أيامي أسفار قصيرة، حيث أقيم في منتجعات للاستجمام والابتعاد عن زخم الحياة والمغامرة».
ويوجز «قد يرى البعض أن متعة السفر لا تكتمل إلا بالسكن المريح الفاخر، والجلوس في المقاهي، والتجول في الأسواق. علينا تقبّل كل الأشخاص باختلاف شخصياتهم، وأذواقهم، وأنا على يقين بأن السفر الذي لا تتعلم منه دروساً جديدة للحياة، لا يكون مكتمل الفائدة».