حنان المرزوقي: «دبي الإنسانية» تدعم المجتمعات للتعافي.. والأمل هو خيارنا الوحيد للاستمرار

في تماسّها مع العمل الإنساني، تلامس احتياجات البشر، وكل مبادرة تغيّر داخلها شيئاً ما. تقف حنان المرزوقي، مديرة العمليات والمبادرات في «دبي الإنسانية»، شاهدة على قوّة الشغف في أداء رسالتها، وهي تخوض غمار العمل الإنساني، وتتنقل بين إدارة الاستراتيجيات وتطوير النظم اللوجستية التي تسهّل عبور المساعدات إلى نقاط الأزمات والكوارث، مؤكدة أنّ التحدّي الأكبر في عملها هو «الجمع بين السرعة، والدقة، والتعاطف، في آنٍ واحد»، وهي معادلة حسّاسة، بخاصة عند إدارة المساعدات العابرة للحدود.
لا تصل المرزوقي إلى الميدان لكون عملها يصّب في إطار التنسيق، ولكنها تواكب التحدّيات، وما وراء التحدّيات من «مستجدات وإجراءات لوجستية رهن الميدان»، وتبني منظومة إنسانية متكاملة تجسد رؤية الدولة، وإسهاماتها، وعطاءاتها في المجال الإنساني.
وإذ تحمل رؤية متكاملة تربط بين الإغاثة والتنمية، تؤمن المرزوقي بأنّ المرأة الإماراتية اليوم تشارك بفاعلية في العمل الإنساني، وتتصدّر المشهد، وتفتح آفاقاً جديدة للعطاء. ومعها في هذا الحوار تطلّ على كل تلك العوالم.
كيف بدأت رحلتك المهنية في القطاع الإنساني؟
بدأت رحلتي عام 2015، قبل نحو عشر سنوات، بالصدفة، ومن غير تخطيط مسبق. في الحقيقة، لم يخطر في بالي يوماً أن أختار هذا المسار. بدأتُ حينها في إدارة الاستراتيجية وتطوير الأعمال. وكما يقولون، هناك أشياء تختارك في الحياة، وتجد نفسك جزءاً منها.
ما أبرز المحطات التي شكلت نقطة تحوّل في مسيرتك المهنية ومن كان الداعم؟
هناك محطات كثيرة، وعلى مستويات عدّة. في ما يخص المستوى المهني، كانت محطة دراستي لماجستير إدارة الأعمال في الاستراتيجيات، وفي أثناء دراستي تحولت وظيفتي من العمل على هندسة إجراءات الأعمال Business Process Engineering إلى استراتيجيات الأعمال، ما أضاف إلى عملي بعداً مهنياً آخر، وأكثر اتساقاً مع توجهات المؤسسات التي التحقت بها لاحقاً. كما أن الدعم الذي تلقيته، سواء من مسؤوليّ المباشرين، والثقة الكبيرة التي حظيت بها مبكراً في مشواري المهني، كل هذا ساعدني بشكل كبير على تطبيق أفكاري لتطوير العمل.
كما أن المبادرات من «دبي الإنسانية» التي نتجت استجابة للأزمة الإنسانية في غزة، وغيرها من الأزمات الإنسانية، شكلّت تجربة مختلفة أمدّتني بالكثير من الخبرات الميدانية، حيث إن التنسيق اللوجستي لا بدّ أن يكون على أكمل وجه.
كيف وظفت دراستك في نظم المعلومات وإدارة الأعمال في إدارة العمليات والمبادرات الإنسانية بكفاءة؟
في الحقيقة، دراستي لنظم المعلومات الإدارية أسهمت كثيراً في فهم الفرص لتطوير نُظم العمل في المؤسسات، والتي غالباً تبدأ من إجراءاتها. على سبيل المثال، خلال عملي في «دبي الإنسانية» بادرت بالعمل على مشروع عام 2017، كان هدفه مسح جميع العمليات التي تهتم بتقديم الخدمات لعملائنا من المنظمات الإنسانية، والتي تقوم على منح الموافقات الحكومية، وتسهيل إجراءات استيراد وتصدير المواد الإغاثية وقت الأزمات الإنسانية الطارئة. كان ذلك هو المسح الأول لإجراءات المؤسسة، وكان توثيقها وتحليلها هو النافذة الأولى التي من خلالها طوّرت «دبي الإنسانية» خدماتها اللوجستية، ومن ثمّ ابتكرت واحداً من أهم أنظمتها لتتبع الشحنات الإنسانية اليوم. أما دراسة إدارة الأعمال والاستراتيجية، فقد أضافت لي بعداً آخر من حيث أهمية بناء الشراكات وإدارة العلاقات مع القطاع الخاص، وإيجاد الفرص المتكافئة بين قطاعَي العمل الإنساني والخاص، لتمكين الأخير من إيجاد دور إيجابي مؤثر في العمل الإنساني الدولي، وهو دور لم يكن واضحاً بشكل كافٍ مسبقاً.

كمديرة للعمليات والمبادرات الإنسانية، ما التحدّي الأكبر الذي تواجهينه وكيف تتعاملين معه؟
لا يخلو مجال من مجالات العمل المختلفة من التحدّيات، خصوصاً أمام أولئك الطموحين الذين يريدون إنجاز عملٍ مؤثر، وتغيير إيجابي. فالتحدّي قد يكون التمويل إذا تحدثنا عن المنظمات الإنسانية، وقد يكون النظام التقني، أو المرونة، أحياناً أخرى. يبقى التحدّي الأكبر هو الحفاظ على السرعة، والدقة، والتعاطف، في آنٍ واحد. ففي القطاع الإنساني، كل دقيقة تُحدث فرقاً، بخاصة عند تنسيق المساعدات عبر الحدود، أو إدارة العمليات اللوجستية الواسعة استجابة للكوارث والنزاعات. ومع كل هذه السرعة، لا يمكن أن نغفل عن الإنسان وراء الأرقام، إنها معادلة دقيقة تتطلب تحقيق مؤشرات الأداء الرئيسية.
فالحديث عن طبيعة عملنا هو الهدف. صحيح أنّنا لا نصل إلى الميدان، ويرتكز عملنا على الجانب التنسيقي البحت، ولكن يكمن خلفه تنسيق لوجستي «رهيب». والمثال أنّه عند وصولنا لمنطقة العريش، وكانت أول رحلة ميدانية لي، تلمّست مدى الحاجة الملحّة إلى تلك المبادرات الإنسانية، حيث كانت الشاحنات تصطف لتفريغ المساعدات بأقصى سرعة لإيصال المساعدات إلى أهل غزة.

كيف أثّرت المبادرات والمشاريع، الإنسانية والثقافية، في مسارك، وهل تحاكي جانباً من إنسانيتك؟
في الحقيقة، تجربة عملي في قطاع الثقافة أثرّ بشكل جميل في مساري المهني الذي كان ينبع من شغف بهذا القطاع، خصوصاً أنه كان يمس وضع النظم الأساسية والاستراتيجيات لهذا القطاع الثري، حيث العمل يحمل الكثير من الاستكشاف والمتعة. أما القطاع الإنساني، فهو المكان الذي شعرتُ فيه بأن كل عمل صغير أقوم به، مثل الرد على البريد الإلكتروني بمراجعة، أو موافقة، أو التنسيق مع شريكٍ ما، هو عمل هام ومؤثر، ونتيجته على المدى الطويل ستنبت جذوراً أقوى، وأكثر رسوخاً لمبدأ أن عملنا التنسيقي في العمليات الإنسانية وقت الأزمات والكوارث هام للغاية، وذو هدف سامٍ جداً، وأن تطويره بالنظم والرؤى المستدامة يخلق قاعدة أكثر صلابة، وتجدداً، وابتكاراً. فهذا التنسيق يوحد الجهود، وينادي بالاستباقية في دمج الشراكات الملهمة لإعطاء الجميع فرصة للمساعدة والمساهمة، وبالتالي، الوصول إلى المحتاجين حول العالم وتوفير ظروف حياتية أفضل لهذه الفئة.
لكونك عملت في قطاع التنمية الاجتماعية، ما الرابط الذي ترينه بين التنمية والعمل الإنساني، وإلى أي مدى يتكامل كلا المسارين؟
من وجهة نظري، العمل الإنساني والتنموي مترابطان، ولا يمكن فصلهما. فبينما يركّز العمل الإنساني على تلبية الاحتياجات الفورية، والاستجابة للأزمات العاجلة، يضمن العمل التنموي ألّا تعود المجتمعات إلى دائرة الضعف، مع مرور الوقت.
ومن أجل تحقيق أثر طويل الأمد، لا بدّ للقطاع الإنساني من أن يعطي الأولوية لكلا الجانبين، من الإغاثة إلى التمكين، كالاستثمار في البنى التحتية، التعليمية والصحية والاجتماعية. وعمل التنمية الاجتماعية يأتي غالباً بعد استقرار المجتمعات من الكوارث التي تمنعها من ممارسة حياتها اليومية. وفي «دبي الإنسانية»، ننظر إلى قطاعي التنمية الاجتماعية والعمل الإنساني كجزء من مسار متكامل. فهدفنا لا يقتصر على الاستجابة، بل يشمل أيضاً دعم المجتمعات في التعافي، وإعادة البناء، وتحقيق الازدهار، بكرامة واستدامة.
نعمل لنمنح العائلات ظروفاً حياتية أفضل... والمرأة الإماراتية تغيّر الواقع الإنساني
ما هي القيم التي تحرصين على ترسيخها في الفريق الذي تقودينه؟
أولاً الهدف النبيل من وراء هذا العمل وهو مدّ يد العون، ومنح الأمل، العمل الجماعي المحترف والسريع، التعاون ووضوح الرؤية، التواصل الفاعل والمؤثر. كما أحرص دائماً على تذكير فريقي بأن التميّز في العمل الإنساني لا يُقاس بالكفاءة فقط، بل بالنية أيضاً. فكل مهمة، مهما كانت تقنية، هي في جوهرها عمل إنساني نبيل.
ففي خضم الكوارث والأزمات الإنسانية المتلاحقة، شكّل هذا المجال بالنسبة لي نافذة حقيقية لأُحدث فرقاً ملموساً. انخراطي في قطاع العمل الإنساني منحني مساحة فاعلة لأكون جزءاً من عملية تطوير آليات المساعدات، والمساهمة في إحداث تغيير حقيقي على الأرض.
كيف ترصدين دور المرأة الإماراتية في العمل الإنساني؟ وكيف تسهمين، شخصياً، في تمكين الكوادر النسائية في هذا المجال؟
لطالما كانت المرأة الإماراتية رمزاً للصمود والعطاء. واليوم، هي لا تسهم فحسب، بل تتصدر المشهد، تضع الاستراتيجيات، تنسق المساعدات، وتؤثر في السياسات. والأثر الذي تُحدثه ملموس وتحويلي، في آنٍ واحد. أرى أنّ المرأة الإماراتية تلعب دوراً هامّاً جداً في العمل الإنساني من خلال مجالات عدّة، حيث إن الطبيبة الإماراتية تراها أيضاً في المستشفيات الميدانية التي تقيمها الدولة في الدول المنكوبة مثلاً، المتطوعة الإماراتية في الميدان، المعلّمة التي تربي الأجيال، المنسقة خلف شاشة الحاسوب، الأم التي تربي أبناءها على قيم الإنسانية النبيلة، الدبلوماسية التي تشارك في المفاوضات.
أحب أن أرى فريق عملي من الكوادر النسائية يسعى لتطوير مهاراته، وفهم هذا القطاع غير المستقر والمتغيّر، أحب أن يتعلموا اتخاذ القرارات المناسبة والحساسة في وقت قياسي، واضعين كل الاعتبارات، المحتملة وغير المحتملة، في الحسبان. لأن المرأة تمتلك بالفطرة هذه الصفات، وتفعيلها في مكانها المناسب يتطلب الانتباه، والمهارة، والرؤية الواضحة. أعمل على غرس هذه المهارات في كل فرصة، أو تحدٍّ نواجهه أثناء العمل، وسعيدة جداً بأدائهنّ وتفوقهن.
وكنت محظوظة بمرافقة وتوجيه عدد من النساء والشباب في هذا المجال الذي لا يزال يفتقر إلى الظهور المهني الكافي. أؤمن بأن الوعي هو الخطوة الأولى، فعندما يرون ما هو ممكن، يصبح التحدّي في تمكينهم بالثقة، والمهارات، والفرص التي تؤهلهم للقيادة بصدق.

في بيئة عمل يغلب عليها الطابع الإنساني والتعامل مع المعاناة، كيف تحافظين على توازنك النفسي؟
رغم أن عملنا الإغاثي مع إدارة المنظمات الإنسانية يقتصر على التنسيق اللوجستي المستمر لحين التأكد من وصول المساعدات إلى المطارات والموانئ، إلّا أن هذا المجال لا يخلو من قصص المعاناة التي يشارك تفاصيلها زملاؤنا، من الذين يصلون ويتفاعلون مع المحتاجين في الميدان، حيث لا تملك حينها إلا التعاطف والاستمرار، لأن خيارك الوحيد هنا هو الأمل، ولن نستطيع المواصلة من غير الأمل. حين أدرك أن أبسط جهد أقدمه من خلال عملي قد يسعف أسرة من التشرّد، أو يسدّ رمق جائع، أو يسرّع وصول مساعدات ولو بيومٍ واحد، لا أملك إلّا أن أواصل. وبالتالي، يصبح مصدر المعاناة حافزاً لك.
هل من موقف إنساني صادفك ولا يمكن أن تمحيه من ذاكرتك؟
هذا الميدان غيّر نظرتي إلى الحياة، حيث نتعامل في حياتنا اليومية مع الواقع كـ«تحصيل حاصل» ونستيقظ لنجد طعاما وشرابا ومسكنا وطبابة ونشعر بالأمان. ولذلك، ثمة الكثير من الأشياء تغيرّت داخلي، وحتى أني أوجّه من حولي من محيطي إلى أهمية تقدير كل نعمة حوله.
هناك موقف صادفته مع إحدى الزميلات من دولة إفريقية، حيث استضفنا مؤتمراً كان هدفه إعطاء معلومات عن إحدى الكوارث التي أسهمنا في الاستجابة لها، وشاركنا توجيهات الدولة مع المجتمع الإنساني الدولي، والتزامنا الثابت لدعم الأزمة. آنذاك، التفتت إليّ وقد غلبتها الدموع متأثرة بأن دولة فتية مثل الإمارات تسخّر كل إمكاناتها لتلبي نداء الإنسانية في أغلب دول العالم لتصل إلى المنكوبين، وتوجهت إليّ بالقول: «يجب أن تكوني فخورة جداً بدولتكم، وقيادتكم الاستثنائية».

ما طموحاتك المستقبلية لـ«دبي الإنسانية»؟
طموحي هو أن تواصل دبي الإنسانية عملها الاستباقي الطّموح في خلق شبكة أمان عالمية، من خلال التواصل المثمر مع المراكز الإنسانية الأخرى حول العالم، وأن يصل نموذج عمل «دبي الإنسانية» الفريد إلى هذه المراكز، وأن تبقى دبي الرائدة دائماً، المتجدّدة، المرنة، والتي يقودها الأمل، والعزم، وقيادة مُلهمة تضع كرامة الإنسان فوق كل اعتبار.
واليوم، هناك أكثر من 300 مليون إنسان حول العالم في حاجة ماسّة إلى الدعم، وهي أرقام غير مسبوقة تتطلب من المجتمع الدولي أن يتكاتف أكثر من أيّ وقت مضى، لتقديم استجابة جماعية بحجم المعاناة، وآمل أن يستمر عملي في هذا المجال الإنساني برؤية مستدامة، وصولاً إلى عالم خالٍ من الحروب والمآسي، يكون فيه للإنسانية اليد العليا.
* تصوير: صلاح عمر