تواعدت جمعيات شعبية فرنسية عدّة، على التظاهر قبل أيام، احتجاجاً على واحدة من الهدايا التي قدّمها رئيس جمهوريتهم إلى ملك بريطانيا، خلال الزيارة الرسمية التي قام بها إلى لندن، أخيراً. صرخ المتظاهرون، وهتفوا، ورفعوا اللافتات التي تقول إن ليس من حق ماكرون أن يتبرع بقطعة من تراثهم الوطني إلى تشارلز الثالث.
ما حكاية هذه الهدية؟ هي قطعة نسيج طولها 70 متراً، تعود إلى القرن الحادي عشر، تروي بالتطريز وقائع فتح إنجلترا على يد القائد جيّوم، دوق مقاطعة النورماندي الذي أصبح، فيما بعد، ملكاً لإنجلترا. والحقيقة أن الرئيس الفرنسي لم يجرؤ على تقديم السجادة الجدارية الثمينة والتاريخية كهدية لا تُسترجع، بل أعارها للمتحف البريطاني لمدة تقارب السنة.
اعتاد زعماء الدول أن يقدموا الهدايا لقادة الدول التي يزورونها. وهو تقليد عريق يمرّ، غالباً، من دون اعتراض، لكنه قد يثير جدلاً في حال كانت الهدية نادرة لا مثيل لها، وذات قيمة معنوية. وقد سمعنا عن شعوب اعترضت على قيام رؤسائها بالتكرّم بقِطع من آثارها لنظرائهم عند زياراتهم لدول خارجية، خصوصاً إذا لم تكن هناك نسخ متشابهة من تلك القطع الأثرية.
ويبدو أن الرئيس الفرنسي كان يشعر بأن هديته ستثير الأقاويل، لهذا اختار الإعارة بدل الهِبة والمَنح. وهو لم يذهب إلى ملك بريطانيا خالي اليدين، بل قدم له أيضاً هدايا جميلة، منها النسخة الوحيدة من نوتة موسيقية للمؤلف الفرنسي كلود دوبوسي الذي عاش في القرن التاسع عشر. كما حمل ماكرون معه إلى مضيفه بوقاً يعود إلى فرقة الحرس الجمهوري. ونظراً لأن ملك بريطانيا يمارس هواية الرسم، فقد أخذ له هدية أخرى هي علبة من الخشب تحوي مجموعة ألوان مائية، ومنقوش عليها اسم الملك. أما آخر الهدايا فكانت سلّة تحتوي على مجموعة مختارة من أطايب الأجبان الفرنسية الشهيرة.
لم يعترض الفرنسيون سوى على قطعة النسيج المطرّزة بشكل رائع. والسبب هو خشية تعرّضها للتلف والتمزّق خلال النقل، والعرض أمام زوار المتحف البريطاني. فقد بقيت هذه السجادة ملفوفة بحرص، ومحفوظة في صندوق خاص بها، طوال القرون الماضية. كما كان الخبراء يتولون ترميمها عند الحاجة. وكان هناك من الصحفيين من تساءل: ما قيمة قطعة فنية محجوبة عن أنظار البشر؟
في رأيي المتواضع، أجد أن المحتجين يشبهون جارتنا العجوز في بغداد الحاجّة فهيمة، فهي كانت تترك فاكهة شجرة النبق تجف على غصونها في حديقتها فلا تقطفها لتتمتع بها، ولا تسمح لأولاد الجيران بتسلّق الشجرة وقطف حبات النبق الناضجة.
أجمل التصريحات التي سمعتها من واحدة من الفرنسيات المحتجّات على ما قام به ماكرون هو: إنه نزق رئاسي لا أكثر!