20 يوليو 2025

عالمة اللغويات د. فاطمة سعيد: رحلتي الأكاديمية شكلت هويتي كباحثة و«العربية» تحتاج بيئة حاضنة

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

تبرز الدكتورة فاطمة فيصل سعيد، عالمة لغويات تطبيقية وأستاذ مساعد في جامعة زايد بأبوظبي، بكلية الدراسات متعدّدة التخصصات، كباحثة رائدة في دراسة ثنائية اللغة، وتطوّر اللغة في مرحلة الطفولة المبكرة، لا سيّما في البيئات المتعدّدة اللغات.

تدمج د. فاطمة بين عملها الجامعي والبحثي، وخدمة المجتمع، مرتكزة على تجربتها الشخصية، ونشأتها في إنجلترا بين لغتين، ما منحها فهماً عميقاً ومتفرّداً لتعقيدات الهوية اللغوية والثقافية. ولذلك، فهي تشارك في أبحاث محلية ودولية تتقاطع فيها الهوية، اللغة و«القراءة للمتعة» .

وكانت د.فاطمة سعيد  شاركت في مؤتمر «القراءة للمتعة» الذي نظمته مؤسسة الإمارات للآداب، وأطلّت فيه على عوالم اللغة العربية، وثنائية اللغة لدى الأطفال العرب، وسلّطت الضوء على التحدّيات والفرص التي يواجهها الأطفال الذين ينشأون في بيئات متعدّدة اللغات.

 وفي حوارها مع «كل الأسرة » تلقي د. فاطمة فيصل سعيد الضوء على أبحاثها، وبصمتها الأكاديمية والمجتمعية في  تشكيل جيل قادر على التعبير عن ذاته بلغاته المتعدّدة، مقدمة استراتيجيات مبتكرة لدعم الأسر والمعلمين في تنمية المهارات القرائية واللغوية لدى الأطفال.

 ما الذي ألهمك دخول مجال اللغويات التطبيقية، لا سيّما في سياق الطفولة وثنائية اللغة؟

لقد تأثرت رحلتي الأكاديمية في علم اللغة التطبيقي بعمق والفضول حول كيفية اكتساب اللغات، وكيف تشكل الهوية، وكيف تُستخدم في سياقات اجتماعية وثقافية متنوعة. اللغة هي جوهر الوجود البشري؛ ومن خلال اللغة نلتقط أحلامنا، وآمالنا، ومخاوفنا.

ما لفت انتباهي حقاً هو كيف أن الأطفال الصغار، حتى في سن الثلاث سنوات (أي 36 شهراً فقط)، قادرون على التكيف الكامل في مجتمعهم من خلال استخدام لغة جيدة، (وليست كاملة). فكرت بيني وبين نفسي: «إذا كانت لغة واحدة معقدة للتعلم، فماذا عن تعلّم لغات متعددة؟ ما الذي يحدّد تطور ثنائية اللغة؟ هل يمكنني أن أتعلم كيف يطوّر الأطفال ثنائية اللغة، وهل يمكنني تعليم الآباء الآخرين القيام بالمثل؟ كيف يمكنني مساعدة الناس على تعزيز قدرتهم على تعلّم لغات عدّة، والاستمتاع بفوائدها المعرفية والصحية؟».

ما أثار فضولي وجعلني أركز على ثنائية اللغة هو تجربتي الشخصية كفتاة نشأت في إنجلترا، وتحدثت بلغتين، واحدة في المدرسة، والأخرى في المنزل مع والديّ. كنا نستخدم العربية فقط عندما كنا نتعلمها في المدارس الأسبوعية، لكون المدارس في إنجلترا لا تقدم اللغة العربية كمادة. درست اللغة الفرنسية وفي وقت لاحق من سنوات الجامعة، ودرست اللغة الروسية. لكن العربية كانت دائماً لغة منزلية، أو لغة مخفية. كنت أريد أن أعرف كيف استطاع الأطفال مثلي القيام بذلك. كنت فضولية وأردت أن أفهم كيف يمكن للأطفال تعلّم أكثر من لغة، وكيف يمكننا التبديل بين اللغات بسهولة.

 دفعني ذلك إلى الحصول على درجة علمية في اللغويات واللغة العربية، ثم ماجستير في اللغويات -تخصص في اللغة العربية، ثم ماجستير آخر في اللغويات التطبيقية. في هذه المرحلة اخترت التركيز بشكل خاص على ثنائية اللغة والتعدّد اللغوي، ما قادني إلى إكمال درجة الدكتوراه في اللغويات التطبيقية. وارتأيت  التركيز على ثنائية اللغة لدى الأسر الناطقة باللغة العربية، وهذا هو شغفي لكوني  أرى أن دور الأسرة مركزي ومحوري  في رحلة  الطفل مع اللغة.

مجلة كل الأسرة

 ما هي أبرز المحطات في مسيرتك الأكاديمية والمهنية التي تعتبرينها مفصلية في تشكيل هويتك كباحثة؟

أحد أهم المعالم في رحلتي الأكاديمية كان إكمال درجة الدكتوراه في اللغويات التطبيقية، في كلية بيركبيك-جامعة لندن. تلك التجربة وضعت الأساس لهويتي البحثية، بخاصة في مجالات مثل التعددية اللغوية، وأيديولوجيات اللغة، وتطوير الهوية.

لحظة فاصلة أخرى ومحطة هامّة  كانت تعييني كأول مسؤول بحث في جامعة يورك، حيث أتاح لي هذا الدور  الفرصة لدعم الباحثين في بداية مسيرتهم المهنية، والمساهمة في استراتيجية البحث المؤسسية، ما وسع  آفاقي ورؤيتي لدور البحث في التعليم العالي. كما كانت قيادة مجموعة البحث حول التعدّدية اللغوية في الخليج تجربة حاسمة، فمن خلال هذا العمل، تمكنت من استكشاف كيفية تنقل العائلات عبر الخليج بين ثنائية اللغة وتطوير اللغة، واستقطاب المزيد من الاهتمام العالمي للواقع اللغوي في المنطقة، بخاصة داخل المجتمعات الإماراتية وغير الإماراتية. لكن النقطة الأبرز في مسيرتي المهنية كانت دوري التدريسي في جامعة زايد، تلك الجامعة التي  تأسست على رؤية الشيخ زايد، طيّب الله ثراه، بأن أيّ مجتمع لكي يزدهر يجب أن يكون لديه أساس تعليمي قوي. لذا، كان الشرف لي أن أعمل مع الطلاب الذين يشكلون الجيل القادم من العلماء، والمعلمين، والقادة، وصانعي التغيير. فكوني جزءاً من رحلتهم الأكاديمية خلال إجراء أبحاث محلية الجذور وعالمية الأهمية كان أمراً هامّاً لي على الصعيدين، المهني والشخصي، كباحثة.

 تركزين في أبحاثك على سياسات اللغة الأسرية وتطوّر محو الأمية لدى الأطفال العرب ثنائيي اللغة.. ما أهم التحدّيات التي يواجهها هؤلاء الأطفال؟

الأطفال الذين ينشأون ثنائيي اللغة يواجهون عدة تحديات مترابطة، سواء في الإمارات، أو في الخارج. إحدى القضايا الرئيسية هي هيمنة اللغات العالمية، مثل الإنجليزية، التي غالباً ما تأخذ الأولوية في التعليم ووسائل الإعلام، وحتى داخل المنزل. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقليل التعرّض للغة العربية، بخاصة في أشكالها المكتوبة الأكثر تعقيداً، ما ينتج عنه ما نسميه «تآكل اللغة التراثية». وفي الإمارات، اللغة العربية هي اللغة الرسمية، ولكن يلتحق العديد من الأطفال بالمدارس التي تدرّس باللغة الإنجليزية، وينشأون في بيئات متعدّدة اللغات، وتهيمن اللغة الإنجليزية على تجارب الأطفال التعليمية، بخاصة في المدارس الخاصة والدولية، وتستخدم أيضاً على نطاق واسع في التكنولوجيا، والمنصات الرقمية، ووسائل الإعلام، وغيرها، ما  يجعل من الصعب الحفاظ على اهتمام الأطفال ومشاركتهم باللغة العربية خارج بيئات التعلم الرسمية. علاوة على ذلك، قد تعطي بعض العائلات، بخاصة تلك التي تستثمر بشكل كبير في النجاح الأكاديمي، لأطفالها الأولوية لاستخدام اللغة الإنجليزية في المنزل، معتقدة أن الطلاقة في اللغة الإنجليزية ستوفر فرصاً تعليمية ومهنية أكبر. وعلى الرغم من حسن النية، يؤدي هذا أحياناً إلى تقليل قيمة اللغة العربية في الحياة اليومية، وضعف ارتباط الأطفال بلغتهم التراثية.

مجلة كل الأسرة

 شاركت أخيراً في مؤتمر  «القراءة للمتعة» الذي نظمته  مؤسسة الإمارات للآداب، كيف ترصدين أهمية هذه المبادرة في الإضاءة على معضلة أساسية تواكب عصر الرقمنة والسرعة؟

بصفتي باحثة في ثنائية اللغة في مرحلة  الطفولة المبكرة والتعدّدية اللغوية الأسرية، وجدت دوماً أن القراءة تلعب دوراً محورياً في دعم تطوير اللغة لدى الأطفال عبر لغات عدّة. لذلك، فإن مؤتمر «القراءة للمتعة» يأتي في الوقت المناسب، ويُعد ضرورياً في عالمنا سريع الوتيرة المدفوع بالتكنولوجيا، فهو  يوفر منصة ضرورية للعائلات، والمعلمين، والمربّين، للتجمع واستكشاف طرق فعالة لتعزيز عادات القراءة للمتعة مدى الحياة، وبشكل مستدام. هذه العادات لا تعزز التطور اللغوي والمعرفي فقط، بل تبني أيضاً الاتصال العاطفي والمرونة لدى الأطفال.

وكان من المناسب، بشكل خاص، أن يعقد هذا المؤتمر الهام في دبي، حيث تقود دولة الإمارات  الطريق في إحياء وتشكيل وتطوير فهمنا، الإقليمي والعالمي، لما يعنيه «القراءة للمتعة» في القرن الحادي والعشرين. كما أنّ رؤية وإدارة إيزابيل أبو الهول، (أم منصور)، الرئيس التنفيذي لمؤسسة الإمارات للآداب، في إحياء هذه المبادرة، هي حقاً رؤية ملهمة.

 ماذا عن «القراءة للمتعة» في تعزيز الثنائية اللغوية وجني فوائدها؟

القراءة للمتعة هي أداة قوية أخرى لتعزيز ثنائية اللغة. فالحصول على كتب باللغتين يسمح للأطفال بممارسة مهارات القراءة، والفهم، وتنمية حب الأدب. يمكن للمعلمين أيضاً تشجيع العائلات على استعارة الكتب من المكتبات، ومشاركة تجارب القراءة  التي تشمل اللغتين كلتيهما.

كما أن تشجيع المواقف الإيجابية تجاه اللغتين أمر ضروري لمساعدة الأطفال على الإحساس بالتقدير، والفخر بتعدد لغاتهم. ومن المهم أن يؤكد الآباء والمعلمون على الأهمية الثقافية لكل لغة، والاحتفال بالتراث والتقاليد المرتبطة بها. ويمكن تطبيق استراتيجية قيّمة أخرى وهي ضمان أن تتاح للأطفال فرص متسقة للتفاعل مع الآخرين الذين يتحدثون اللغتين، سواء من خلال الفعاليات المجتمعية، أو مجموعات اللعب، أو التفاعلات مع الأقران في المدرسة. تساعد هذه التجارب الأطفال على بناء مهارات اللغة بشكل طبيعي في المواقف الحياتية. وفي عصرنا الرقمي اليوم، يمكن للتكنولوجيا والأدوات عبر الإنترنت أن تلعب دوراً كبيراً في دعم ثنائية اللغة، ومنها التطبيقات التعليمية، والمواقع الإلكترونية، والألعاب المصممة لتعليم اللغة من خلال الأنشطة التفاعلية.

إضافة إلى ذلك، يمكن لبرامج تبادل اللغات أو المجتمعات الإلكترونية أن تمنح الأطفال الفرصة للتدرب مع الآخرين، ما يعزز تطورهم.

مجلة كل الأسرة

إذن، كيف يمكن دعم الأسر والمعلمين في تعزيز ثنائية اللغة بين الأطفال؟

هذه الخطوة تتطلب خلق بيئات مقصودة ورعاية تشجع على استخدام اللغتين بطرق ذات مغزى. فالمعلمون يلعبون دوراً حيوياً في تعزيز ثنائية اللغة. ويمكن أن يساعد التطوير المهني الذي يركز على دعم الأطفال ثنائيي اللغة المعلمين على فهم التحديات التي يواجهها هؤلاء الأطفال بشكل أفضل، مثل التنقل بين اللهجات المحكية، واللغة الفصحى في القراءة والكتابة. بالتالي، يجب على المعلمين دمج استراتيجيات شاملة تستجيب للتنوّع اللغوي لطلابهم، ما يُشعر جميع الأطفال بالدعم في تطوير لغتهم.

ولا يمكن إغفال التعاون بين المدارس والأسر كأمر حيوي، حيث يضمن نهجاً متسقاً لتعزيز ثنائية اللغة في المنزل، وفي الفصل الدراسي، وإيجاد بيئة تُقدَّر فيها كلتا اللغتين، وتُستخدمان بانتظام، وتُعتبران أدوات مهمة للتواصل، والتعلم، والهوية. وندما تعمل الأسر والمعلمون معاً على تعزيز ثنائية اللغة، يكون الأطفال أكثر استعداداً للازدهار من الناحية المعرفية، والاجتماعية، والأكاديمية، ويجنون الفوائد العديدة لكونهم ثنائيي اللغة طوال حياتهم. 

وإحدى الاستراتيجيات الأكثر أهمية هي أن تقوم العائلات بوضع سياسات لغوية واضحة في المنزل. قد يتضمن ذلك اختيار أوقات، أو أنشطة محدّدة مخصصة لكل لغة. ويجب على الأسر والمعلمين التركيز على خلق بيئة غنية باللغة، و يشمل ذلك تقديم مجموعة متنوعة من الموارد، مثل الكتب، والوسائط، والمواد التعليمية باللغتين حيث يستفيد الأطفال من التفاعل مع القصص والأغاني والألعاب التي تعزز المفردات والفهم في كل لغة، ومن الأنشطة التعليمية التفاعلية، مثل سرد القصص، واللعب، أو التمثيل.

مجلة كل الأسرة

في هذا السياق، كيف يمكن تعزيز اللغة العربية في هذه البيئات؟

أؤكد أنّه من دون هياكل دعم قوية، وموارد، وتشجيع، يمكن أن تتراجع دوافع الأطفال لقراءة اللغة العربية، والانخراط فيها، بخاصة عندما ترتبط اللغة أكثر بالبيئات الرسمية، أو الأكاديمية، بدلاً من الإبداع، واللعب، والتعبير اليومي. هذا يجعل مهمة تعزيز القراءة باللغة العربية، بخاصة من خلال القراءة للمتعة، أكثر أهمية، ويحتاج إلى جهود مشتركة بين الأسر، والمعلمين، وصانعي السياسات.

التحدّي الفريد للأطفال ثنائيي اللغة الناطقين بالعربية هو الطبيعة، «ثنائية اللغة» للغة العربية، حيث يتحدثون نوعاً واحداً في المنزل (لهجة محلية)، ويتوقع منهم القراءة والكتابة بلغة أخرى (العربية الفصحى الحديثة). في الواقع، غالباً ما يظهر الأطفال الذين يتحدثون العربية كلغتين مزايا معرفية تتفوق على أقرانهم الذين يتحدثون لغة واحدة، بما في ذلك الوعي اللغوي الأكبر، والمرونة في التفكير، والقدرة على التنقل بين أنظمة لغوية متعدّدة. وفي الخارج، غالباً ما تتفاقم هذه التحدّيات، وقد تواجه الأسر صعوبة في الحفاظ على اللغة العربية بسبب محدودية الوصول إلى الموارد، أو الدعم المجتمعي، أو الأقران الناطقين بالعربية.

وتظهر أبحاثي أن «القراءة للمتعة باللغة العربية »، وبجميع لغات الطفل، يمكن أن تكون وسيلة قوية لسد هذه الفجوات، وتعزيز ثنائية القراءة والكتابة، وتقوية ارتباط الطفل بتراثه. هذا يتطلب تخطيطاً متعمداً في المنزل، والوصول إلى مواد قراءة جذابة، ودعماً من المدارس والمجتمع.

مجلة كل الأسرة

 وكيف يمكن للقراءة أن تطوّر الهوية اللغوية والثقافية لدى الطفل؟

تلعب القراءة دوراً حيوياً في تطوير الهوية اللغوية والثقافية للطفل. فمن خلال القراءة، يكتسب الأطفال المفردات والقواعد النحوية، ويستكشفون الروابط الأعمق بين اللغة والثقافة.

ويساعد التفاعل مع القصص، والقصائد، والنصوص باللغة الأم الأطفال على الارتباط بتراثهم اللغوي. فالقراءة تساعد الأطفال  على فهم القيم والممارسات الثقافية، والتنقل بينها، ويوفر الأدب نافذة على تنوع التجربة الإنسانية، ما يسمح للأطفال بالتعرف إلى ثقافات، وتقاليد، ووجهات نظر مختلفة. هذا التعرض يوسع من نظرة الأطفال للعالم. فعندما يقرأ الأطفال عن شخصيات وتجارب مشابهة لتجاربهم، يشعرون بالتحقق، ما يعزز هويتهم الثقافية. ومن ناحية أخرى، فإن الاطّلاع على  الثقافات الأخرى يشجع على الانفتاح ويساعد الأطفال على تطوير منظور عالمي. فلا تقتصر فوائد القراءة على التطور اللغوي، بل تعزز  الهوية الثقافية للطفل لجهة  احتضان تراثه، وتقدير الثقافات الأخرى في آن معاً.

 كيف يتبلور دور الأسرة؟ وما  الكتب أو الموارد التي توصين بها لتعزيز مهاراتهم القرائية بالعربية؟

تلعب الأسرة دوراً حيوياً في دعم تطوير اللغة الثنائية. يمكن للآباء خلق بيئة غنية باللغة من خلال دمج الكتب الإلكترونية والكتب التقليدية في روتين أطفالهم اليومي. ويمكنهم تنويع تجربة القراءة من خلال اختيار لغات مختلفة كل يوم.

ومع ذلك، قبل أن يكون هذا النهج فعالاً، يحتاج الآباء أنفسهم إلى أن يكون لديهم موقف إيجابي تجاه القراءة. أعلم من التجربة أن القراءة قد تكون تحدياً، حتى بالنسبة لي كباحثة، وتتطلب الصبر والوقت. لكنني شهدت بنفسي مدى تفاني الآباء الإماراتيين في مساعدة أطفالهم على تنمية حب القراءة، إلى حد كتابة إحدى الأمّهات قصصها الخاصة باللغة العربية لأطفالها. مثل هذه الجهود ملهمة حقاً، وأشعر بالتحفيز كل يوم جراء التزام العائلات التي أعمل معها. أردّد دوماً  للآباء أن الجهود الصغيرة والمتسقة تتراكم لتؤدي إلى نتائج كبيرة مع مرور الوقت. في اللغة العربية، لدينا مثل يقول «الحصى تصنع الجبال»، ما يبرز أهمية المثابرة. يجب على الآباء أن يخففوا الضغط عن أنفسهم، ويحتضنوا الرحلة، ليتفوق أطفالهم في مهارات القراءة واللغة. 

«القراءة للمتعة» قوة ناعمة في بناء الأجيال و«الثنائية اللغوية»  فرصة لتعزيز الهوية

بصفتك أستاذة جامعية ومستشارة لهيئات بحثية عالمية، كيف توفقين بين العمل الأكاديمي والنشاط المجتمعي؟

موازنة العمل الأكاديمي والأنشطة المجتمعية يتخللها جانب تحدّ ومكافأة في آن، حيث أرى أنّ هذين المجالين تكامليان، وأدمجهما من خلال استراتيجية إدارة الوقت، وتحديد الأولويات، والتعاون.

يشمل عملي الأكاديمي البحث، والتدريس، والإرشاد، ويتطلب وقتاً مركّزاً وتفكيراً عميقا، بينما يوفر الانخراط المجتمعي فرصاً مباشرة  للتأثير. ولتحقيق التوازن بين الاثنين، أستخدم تقنيات تقسيم الوقت، ما يضمن أن كل مجال يحصل على الاهتمام الذي يستحقه. وإحدى الوسائل الرئيسية هي دمج التعليم مع outreach المجتمعي. ومن خلال دمج التعلم الخدمي أو البحث القائم على المجتمع في دوراتي، أقدم للطلاب تجربة عملية، بينما أُسهم في القضايا المجتمعية. كما أستفيد من دوري كمستشار لمنظمات البحث العالمية، لتوجيه المشاريع التي تربط بين البحث الأكاديمي وتطوير المجتمع.  التعاون أمر حيوي، وأعتمد على العمل الجماعي مع الزملاء والطلاب لإدارة المسؤوليات بفعالية، كما أن تفويض المهام وقيادة المشاريع بشكل مشترك يضمن مشاركتي في القرارات الرئيسية، بينما نتشارك عبء العمل. الأهم من ذلك، أنني أستمتع بهذا العمل بشكل كبير. وأعتقد أن البحث  ينجز لمساعدة الإنسانية، وهذا ما أسعى لتحقيقه يومياً، وعملي في المجالات الأكاديمية والمجتمعية يغذي شغفي بالبحث، وإمكاناته في إحداث تأثير حقيقي في العالم.

مجلة كل الأسرة

ما الذي يميز أبحاثك حول ثنائية اللغة لدى الأطفال في هذا المجال؟

لا يتعلّق الأمر  بمسيرتي المهنية، بقدر ما يتعلق بالتأثير الإيجابي الذي يمكن أن تحدثه مشاريعي الحالية في حياة الناس. أسعى إلى مواءمة عملي مع رؤية الإمارات 2030، 2031، و2071، حيث أرى أن أبحاثي تسهم في بناء مجتمع أفضل، وأكثر تقدماً وقدرة. مشاريعي المتعلقة بالتعددية اللغوية، واستخدام اللغة في الأسرة، وتطور اللغة لدى الأطفال، مصممة لمعالجة التحديات الواقعية، وتعزيز الفهم اللغوي والثقافي.

وتهدف هذه المشاريع إلى تحسين حياة الأفراد والمجتمعات من خلال تزويدهم بالأدوات اللازمة لتحقيق النجاح في عالم متعدّد اللغات والثقافات. وأحد المشاريع الرئيسية التي تبرز هو عملي على دور ثنائية اللغة في مرحلة الطفولة المبكرة في تشكيل الهويات اللغوية والثقافية للأطفال، مع التركيز بشكل خاص على الأطفال الناطقين بالعربية في الإمارات، ومنطقة الخليج. هذا المشروع يدفع حدود الأبحاث الحالية حول اكتساب اللغة الثنائية، حيث لا يقتصر على دراسة الجوانب المعرفية واللغوية فحسب، بل يستكشف أيضاً كيفية تشكل الهوية الثقافية من خلال الثنائية اللغوية.

هل من مشروع بحثي تعملين عليه حالياً ترين أنه يحمل أبعاداً جديدة أو طموحة في مسيرتك؟

 أنا شغوفة  بشكل خاص ببحثي حول تأثير ثقافة الخادمات والمربيات في الإمارات على ثنائية اللغة الناشئة لدى الأطفال. يتناول هذا العمل تأثير العمالة المنزلية، التي غالبا ما تتحدث لغات مختلفة، في التطور اللغوي للأطفال، والتداعيات التي تترتب على ذلك بالنسبة إلى سياسات اللغة الأسرية، ونقل الثقافة. 

كما أعمل مع الأستاذة هنادا طه، زميلتي الداعمة  في جامعة زايد، على مشروع مثير يركز على القراءة للمتعة وتطوير ثنائية اللغة، وهو مشروع ممول من قبل مؤسسة الإمارات للآداب،  ويهدف إلى المساهمة في فهمنا لتطور محو الأمية، من خلال استكشاف كيفية تعزيز حب القراءة لتحسين المهارات اللغوية، والهوية الثقافية، والبحث في طرق لتعزيز عادات القراءة التي تدعم ثنائية اللغة، لا سيما في البيئات متعدّدة اللغات، ولنفهم بشكل أفضل كيف تسهم هذه العادات في التنمية المعرفية والثقافية.

في الإمارات، لدينا ثقافة قوية تسعى للتفوق في كل ما نقوم به، مع أمثلة ممتازة من قادتنا، وبحوثي هي امتداد لتلك العقلية. وأعتقد أنه من خلال التركيز على احتياجات الأسر والمعلمين والأطفال، يمكنني المساهمة في خلق مجتمع أكثر شمولاً، ومعرفة، وتطلّعاً نحو المستقبل. سواء كان ذلك من خلال تعزيز ثنائية اللغة، أو البحث في القراءة للمتعة، أو استكشاف تأثير الممارسات الثقافية في تطوير اللغة، وأرى عملي كجزء من جهد أكبر لتشكيل مستقبل يتمتع فيه الأفراد بالمهارات والعقلية اللازمة للازدهار في ظل العولمة. والعمل الذي نقوم به في الإمارات موجه دوماً نحو التحسين والابتكار، وجعل حياة من حولنا أفضل.