13 يوليو 2025

ما علاقة الدماغ بالخروج من الجسد؟

أستاذة وباحثة جامعية

مجلة كل الأسرة

الارتفاع في الهواء والصعود حتى سقف الغرفة لترى نفسك من أعلى مستلقياً على السرير... هذا ما يحصل في يوم من الأيام مع شخص واحد من أصل عشرة أشخاص. ويبدو أن السبب هو عطل طفيف في معالجة الدماغ لبعض المعلومات، وهذا بحسب بعض النظريات.

في إحدى ليالي عام 2016، كانت ياسمين شوارزر في سريرها، وعلى أهبة النوم حين بدأت أذناها بالطنين فجأة، واخترق وميضٌ حقلها البصري. ثم أخذ جسمها بالارتجاج، وقلبها بالخفقان الشديد. لقد مرّت بهذه الأحاسيس وتعرفها تماماً، لكن هذه المرة كان ثمّة شيء جديد لأن هذه الأحاسيس لم تعد تخيفها. وبدأت حينذاك بالنسبة إليها تجربة غريبة إذ تقول: «حين فهمت أني لن أصاب بسوء، أخذت أطوف في الهواء، واقترب من سقف غرفتي، وأرى جسدي في السرير». ومنذ ذلك الحين، تكرر هذا السيناريو أكثر من مئة مرة.

تسمى هذه الظاهرة بـ«تجربة الخروج من الجسد»، وشهادة ياسمين تتضمن كل ما فيها من ميزات أساسية، وهي: إحساس بانفصال الجسم المادي عن الأنا التي تختبر ما حولها، وانطباع بأنك تعوم فوق هذا الجسد، وتصيبك الارتجاجات وتسمع أصواتاً غير اعتيادية... وهي ظاهرة تحدث في أغلب الأوقات حين نستيقظ، أو حين نكون على حافة النوم، وقد تحصل كذلك في لحظات الاقتراب من الموت، عند إصابة الشخص بحادث خطر فيفقد وعيه، ويعاني في كثير من الأوقات توقفاً في القلب والتنفس، غير أن المسعفين يتمكنون من إسعافه في الوقت المناسب. يعزو علماء النفس هذه الظاهرة إلى ما يسمى بوهم رؤية الذات المزدوجة.

مجلة كل الأسرة

كانت ياسمين في السادسة عشرة حينما لاحظت للمرة الأولى علامات ممهِّدة لتجربة الخروج من الجسد. في البداية، أصابتها هذه الأحاسيس غير الاعتيادية بحالة من الهلع، لكنها تعلم اليوم أنها كانت تجتاز مجرّد حالات شلل النوم، أي لحظات وسيطة بين اليقظة والنوم، حيث يكون الجسد قد شُلَّت حركته، لكن الذهن لا يزال صاحياً. وفي عام 2016، عثرت ياسمين على منتدى على الشبكة حيث يحكي ناس آخرون تجارب شبيهة بتجربتها. وكانت شهاداتهم تربط بشكل وثيق شلل النوم بتجربة الخروج من الجسد، كما لو أن الشلل هو نوع من «منصة إطلاق» لتجربة الخروج. وقد نصح المشاركون في المنتدى ياسمين بالتخلي عن خوفها، وترك الأمور تسير على ما هي عليه. وحين وقع معها حدث آخر من هذا النوع طبقت النصائح، وعاشت أول تجربة خروج من الجسد.

ولا تزال الأرقام الدقيقة حول نسبة الناس المعنيين بهذه الظاهرة غير متوافرة. وفي عام 1982، أجرت العالمة النفسية سوزان بلاكمور، عمليات تقصٍّ وإحصاء في وسط طلابي لتجد أن 13% إلى 14% منهم قد مر بتجربة الخروج من الجسد، ولو مرة على الأقل. أما بالنسبة إلى مجمل السكان، فالتقديرات تشير إلى 10%. وفي حالات نادرة جداً، قد يحصل الأمر أكثر من مرة واحدة في حياتهم، وفي حالات أشد ندرة يستطيع بعضهم الخروج من الجسد بطريقة إرادية. لذا من الصعب دراسة هذه الظاهرة بشكل اختباري تجريبي، ومع هذا، قام عدد صغير من العلماء بدراسة الموضوع.

تقدم سوزان بلاكمور تفسيرها الخاص، وهي التي عرفت شخصياً هذه التجربة مرة في حياتها في السبعينيات من القرن العشرين. ترى أن الأنا المتجذّرة في الجسم هي عبارة عن وهم خلقه الدماغ. والعالم الذي نراه من داخل رأسنا هو ما تسميه «نموذجاً عن الواقع» يستند بشكل خاص إلى إدراكاتنا الحسية، من صور، وأصوات، وسواها. لكن حينما يصيب خلل ما هذه المعلومات، أو يصيب أنشطة عصبية أخرى ضرورية لخلق نموذج الواقع، يبني الدماغ أنا بديلة انطلاقاً من محتويات الذاكرة لديه... وبما أننا كثيراً ما تظهر لدينا صورة ذكرياتنا من نقطة عالية، فإن الأنا البديلة تكون مرئية كذلك من نقطة عالية.

أما بالنسبة إلى أولاف بلانك، الذي يدير مختبر العلوم المعرفية العصبية في «معهد بوليتكنيك» الفيدرالي، في لوزان بسويسرا، فإن السؤال الأكبر هو معرفة كيف ينتج الدماغ هذا النوع من الإحساس. وقد قام الباحث بتجارب خروج من الجسد منذ أكثر من عشرين عاماً، حتى يومنا هذا. وفي عام 2000، درس فريقه حالة مريضة مصابة بداء الصرع، وواصلوا البحث مع المصابين بهذا المرض. وفي عام 2011 دوَّن العلماء حالة ولد في العاشرة مصاب بمرض الصرع، وقد عاش إبّان واحدة من نوباته تجربة الخروج من الجسد، إضافة إلى أنواع أخرى من الاضطرابات، كإحساسه بأن يده اليمنى ليست ملكاً له.

وهنا تبيّن، كما في حالات سابقة، أن عطلاً في القشرة المخططية هو المسؤول عن هذه الحالة. وبحسب الباحثين، يربط الدماغ بشكل غير مناسب المعطيات المخططية بالمعلومات الحسية المتصلة بالجسم، ما قد يفسر أنه يتخيل وجوده في الموقع الخطأ.

وتؤكد دراسة نشرت في عام 2018 فكرة أن الخلل في القشرة المخططية هو المسؤول عن تجارب الخروج من الجسد. فقد لاحظ العالمان العصبيان كريستوف لوبيز، ومايا إلزيار، أن هذا النوع من التجارب أكثر تواتراً لدى الأشخاص الذين يعانون حالات دوار وفقدان وعي. وقد أكد 14% من المرضى الـ210 الذين سألوهم أنهم عاشوا مرة، على الأقل، حالة الخروج من الجسد، وفي أغلب الأحيان بعد إصابتهم بحالة دوار.

اقرأ أيضاً: د. هدى محيو تكتب: الدماغ يشيخ أيضاً لأسباب اجتماعية