الشيخة عائشة بنت سعيد الشرقي: الإرشاد الأسري ليس وظيفة بل رسالة إنسانية

في وقت تزداد فيه التحديات الأسرية والاجتماعية تعقيداً، تبرز شخصيات استثنائية تقدم رؤى نابعة من الحكمة والخبرة والمبادئ. وفي هذا الصدد نلتقي واحدة من الوجوه البارزة في مجال الإرشاد الأسري والعمل الاجتماعي، هي الشيخة عائشة بنت سعيد الشرقي، مديرة فرع البرامج التأهيلية في إدارة مؤسسة الأحداث بوزارة الداخلية، ونائب رئيس مجلس الإدارة في جمعية الفجيرة الاجتماعية الثقافية، لنتعرف إلى رؤيتها في تعزيز التماسك الأسري وتمكين المرأة والطفل.
كيف كانت انطلاقتكِ في مجال الإرشاد الأسري؟
كانت لإحساسي العميق بالمسؤولية تجاه المجتمع، خاصة في ظل التغيرات المتسارعة التي أثرت في الأسرة ما أدى إلى انجذابي لهذا المجال، إذ لاحظت أن الكثير من الخلافات كان من الممكن أن تُحلّ بالحوار والتفهّم لو أن هناك توجيهاً مبكّراً. هذا ما دفعني إلى التخصص في الإرشاد الأسري وتكريس جهودي لنشر ثقافة التفاهم والتسامح داخل البيوت.

هل هناك موقف أو قصة ألهمتكِ للعمل في مجال الإرشاد الأسري؟
نعم، أذكر موقفاً أثّر فيّ كثيراً خلال أحد المجالس النسائية التي كنت أشارك فيها منذ سنوات، فقد كانت هناك أم شابة جلست تبكي بعد انتهاء المجلس، وحين اقتربت منها وسألتها عن سبب حزنها، أخبرتني أنها تشعر بأنها ضائعة بين مسؤولياتها كأم وزوجة، ولا تجد من يستمع لها دون أن يحكم عليها، وقالت لي بالحرف: «أنا لا أحتاج مالاً أو حلولاً، فقط أريد من يسمعني ويفهمني»، تلك الكلمات ظلّت ترن في أذني، وشعرت حينها بأن كثيراً من النساء يعشن في صمت مؤلم، ويحتجن لمن يحتضن مشاعرهن ويوجههن بلطف ورحمة، ومن هنا أدركت أن الإرشاد الأسري ليس وظيفة، بل رسالة إنسانية.
ما أبرز التحديات التي تواجه الأسر الخليجية والعربية اليوم؟
هناك تحديات متشابكة تواجهها بعض الأسر، منها تغيّر منظومة القيم تحت تأثير العولمة والانفتاح غير الموجّه، ما أدّى إلى تصادم بين الأجيال، وظهور فجوة في الفهم بين الآباء والأبناء، كما زادت الضغوط الاقتصادية من التوتر داخل البيوت، وأثرت في الاستقرار النفسي للأسرة، وتسبب الاستخدام المفرط للتكنولوجيا مع غياب الرقابة الواعية في جعل الشاشات مصدراً للتربية بدلاً من الوالدين، ولا يمكن أن نغفل تحدي التفكك الأسري الصامت، حين يعيش أفراد الأسرة تحت سقف واحد، لكن كلٌ منهم في عالمه الخاص، وهذا أخطر من الطلاق العلني، لأنه يخلق بروداً عاطفياً ينعكس على الأبناء سلوكاً ووجداناً.

كيف أثرت وسائل التواصل الاجتماعي في العلاقات الأسرية من وجهة نظرك؟
بلا شك أثّرت بعمق في شكل العلاقات داخل الأسرة، فمن جهة قرّبت البعيد وسهّلت التواصل مع الأقارب والأصدقاء، ومن جهة أخرى خلقت عزلة داخلية بين أفراد الأسرة الواحدة، فاليوم نجد أفراد العائلة يجلسون في غرفة واحدة، لكن كل منهم منشغل بعالمه الرقمي، فغاب الحوار، واختفى التفاعل الحقيقي، وهذا ما نسميه «الانفصال العاطفي»، وهو أخطر من الخلافات الظاهرة، لأنه يُضعف الروابط دون أن يشعر الطرفان. كما أن المحتوى المنتشر خاصة الموجه للشباب يخلق مقارنات غير منطقية، وتوقعات غير واقعية من الحياة الزوجية أو الأسرية، ما يولد الإحباط والصراع الداخلي، وأنا بكل تأكيد لا أدعو إلى مقاطعة هذه الوسائل، بل إلى ترشيد استخدامها داخل الأسرة، ووضع أوقات مخصصة للتواصل المباشر، وللحوار، وللأنشطة العائلية التي تُعيد الدفء إلى العلاقات.
كيف يمكن معالجة الفجوة بين الأجيال داخل الأسرة؟
هناك فجوة واضحة بين الأجيال، ليس فقط في طريقة التفكير، بل في اللغة التي يستخدمها كل جيل للتعبير عن نفسه. فجيل الآباء نشأ على قيم الانضباط والمسؤولية، بينما نشأ جيل الأبناء في عصر السرعة والتقنية والانفتاح، وهذا خلق نوعاً من الاصطدام الصامت في الكثير من البيوت. والمشكلة ليست في اختلاف الأجيال، فهذا أمر طبيعي عبر التاريخ، بل في غياب جسور التواصل والتفاهم، فكثير من الآباء يريدون من أبنائهم أن يكونوا نسخاً مكررة منهم، بينما الأبناء يبحثون عن من يسمعهم ويفهمهم دون إصدار أحكام. أما عن كيفية المعالجة فهي تبدأ من الإنصات، فعلى الآباء أن يستمعوا إلى أبنائهم بقلوب مفتوحة، وأن يشرحوا وجهات نظرهم بلغة يفهمها الجيل الجديد، وعلى الأبناء أن يقدّروا تجارب آبائهم ويستفيدوا منها، فلا يمكن أن نلغي الاختلاف، لكن يمكن أن نحوله إلى تكامل بدلاً من صراع، إذا توفّر الاحترام المتبادل والتواصل الصادق.

نسمع كثيراً عن زيادة حالات الطلاق في مجتمعاتنا العربية، برأيك ما الأسباب الجوهرية وراء ذلك؟
ارتفاع نسب الطلاق في مجتمعاتنا ليست ظاهرة عابرة، بل نتيجة تراكمات لم تُعالج في وقتها، ومن أبرز الأسباب الزواج غير الناضج، إذ يندفع الشاب والفتاة نحو الارتباط دون معرفة حقيقية بطبيعة الحياة الزوجية أو التحديات التي قد تواجههما، كما أن غياب ثقافة الحوار والتفاهم يؤدي إلى تراكم الخلافات الصغيرة والتي تتحول إلى حواجز كبيرة، وهناك سبب آخر لا يقل خطورة، وهو تدخل الأطراف الخارجية بشكل سلبي، سواء من الأهل أو الأصدقاء، ما يزيد التوتر ويُضعف الاستقلالية في اتخاذ القرار، ولا ننسى وسائل التواصل الاجتماعي التي خلقت صورة مثالية عن الزواج والحياة، ما يجعل البعض يشعر بالإحباط حين يواجه الواقع الحقيقي، فيظن أن الانفصال هو الحل الوحيد.
البيوت التي تصمد أمام العثرات هي التي يسكنها قلب رحيم وعقل متفهّم
كيف يمكن للزوجين بناء علاقة صحية ومستقرة في ظل ضغوط الحياة اليومية؟
بناء علاقة صحية لا يعني غياب المشكلات، بل القدرة على إدارتها بحكمة، فالضغوط اليومية أمر لا مفرّ منه، ويمكن معالجتها بالشراكة الصادقة، وأن يشعر كل طرف بأنه ليس وحده في مواجهة أعباء الحياة، وهذا يتحقق حين يتقاسمان المسؤوليات والتحديات، لا أن يُلقي أحدهما العبء على الآخر، كما أن التسامح والتغافل مهم، فليس هناك بيت خالٍ من العثرات، لكن البيوت التي تصمد هي التي يسكنها قلب رحيم وعقل متفهّم.
ما النصيحة الذهبية التي تودين توجيهها لكل زوجين؟
الحب هو الشرارة التي تضيء الطريق، والاحترام هو الأساس الذي يبنى عليه البيت، كما أن التفاهم والحوار الصادق هما رفيقا الدرب، فالحياة الزوجية ليست رحلة سهلة، لكنها أجمل ما يمكن أن يعيشه الإنسان حين تتوفر فيها هذه العناصر.
ما أهم القيم التي يجب أن نغرسها في أبنائنا في ظل المتغيرات المجتمعية المتسارعة؟
في ظل هذا الزخم من المؤثرات والمتغيّرات، لا بد أن نُحصّن أبناءنا بالقيم التي تمنحهم الثبات والاتزان، ومنها تعزيز هويتهم وانتمائهم، وترسيخ مبادئ الدين، واللغة، والتقاليد، كونها الدرع التي تحميهم من الذوبان في تيارات لا تشبههم، وإعطاؤهم الحرية وأنهم مسؤولون عن خياراتهم، والتعامل معهم بصدق وشفافية.. هذه من أهم القيم التي تحفظ العلاقات، وتُكسب الأبناء ثقة بالنفس وتمكّنهم من التعامل مع الحياة بوجه واحد لا بوجوه متعدّدة.
هل من سبيل لتحقيق التوازن بين الحزم والحنان في التربية؟
السر في التوازن، وأن يكون الحزم مبنياً على فهم ووعي، لا على خوف أو قسوة، وأن يعرف الطفل أن القوانين والقواعد موجودة من أجله لا ضده، أما الحنان فيجب أن يكون صادقاً ومتوفراً دائماً ليشعر بأن أخطاءه ليست نهاية العالم، وأن لديه من يحتضنه ويقوده، وأهم من كل هذا هو الثبات، فلا يتغير الحزم من يوم لآخر، ولا يتبدل الحنان، فالتربية رحلة متكاملة، وكل خطوة فيها تُبنى على توازن نرسمه بمحبة وعقلانية.

ما مشاريعكِ المستقبلية في مجال الإرشاد الأسري؟ وهل هناك مبادرات جديدة تعملين عليها؟
أعمل حالياً على إطلاق منصة رقمية متخصصة في الإرشاد الأسري والتربوي تضم محتوى تفاعلياً ودورات تدريبية للأمهات والآباء، تُقدم بأسلوب مبسط يناسب احتياجات الأسر الخليجية والعربية، كما أعمل على إطلاق مبادرة مجتمعية بعنوان «أسرتي أولاً» تستهدف المدارس والمجالس المحلية، بهدف نشر الوعي الأسري لدى النشء، من خلال ورش عمل ومحاضرات تفاعلية موجهة للشباب والمراهقين.
ماذا عن دور الأهل في حياة الشيخة عائشة بنت سعيد الشرقي؟
تربيت في بيت يؤمن بالقيم، ويزرع فينا الاحترام، والإحساس بالمسؤولية، وحب الناس، فوالدي كان رجلاً ذا حكمة، علّمني أن الكلمة الطيبة صدقة، وأن القوة الحقيقية في الهدوء وضبط النفس. أما والدتي فكانت وما زالت نموذجاً في الصبر والبصيرة، فهي من زرعت فينا حب العطاء، وعلّمتنا أن نكون سنداً للناس، لا عبئاً عليهم.

حدّثينا عن أكثر الداعمين لكِ في هذه الحياة.
في كل مرحلة من حياتي كان الله عزّ وجل هو الداعم الأول لي، ثم تأتي العائلة التي كانت ولا تزال السند الحقيقي، ولا أنسى الدعم الكبير الذي تلقيته من أبنائي، فهم مصدر إلهامي واستمراري، فوجودهم حولي، وفخرهم بما أقوم به، هو الوقود الذي يدفعني لأبذل قصارى جهدي في خدمة الأسرة والمجتمع.
ما طموحاتكِ على المستوى الشخصي؟
أن أستمر في العطاء، وأن أكون سبباً في صناعة فارق حقيقي في حياة الآخرين، خاصة الأسر التي تبحث عن التوازن والاستقرار، فأنا أسعى لأن أظل قريبة من الناس، أسمعهم بصدق، وأوجّههم بمحبة، وأكون بالنسبة لهم مرآة صافية تعكس لهم الحقيقة برفق دون قسوة.
* تصوير: السيد رمضان