من السدو إلى الفخار.. الحرف الإماراتية تنبض في قلب «اصنع في الإمارات»

ضمن أجواء تراثية تجمع بين البساطة والأصالة، يبرز ركن الحِرف اليدوية، الذي تشرف عليه وزارة الثقافة، ضمن فعاليات عام المجتمع، وكجزء من الدورة الرابعة من منصة «اصنع في الإمارات»، حيث يقدّم الركن مجموعة من الحِرف التقليدية التي تنفذها أيادي حرفيين مهَرة، يعيدون من خلالها إحياء تراث الأجداد، ويعرّفون الزوار بتفاصيله، بأسلوب يجمع بين الطابع التراثي، واللمسة العصرية.

وسط زخم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، جذب الجناح زوّار المعرض بجمال تفاصيله، وروح البساطة فيه، لكنه يبرز ليس فقط في التعريف بالحرف التقليدية المعروفة في الإمارات، بل أيضاً بالحرف المعاصرة التي تُصنع بأيدي الإماراتيين، حيث يشكّل الجناح نقطة التقاء بين الماضي العريق، والحاضر المتجدّد، ويقدّم مساحة غنية لعرض أبرز الحرف التقليدية الإماراتية، من السدو والتلي، إلى صناعة الفخار وخوص النخيل، حيث أتيحت للزوار فرصة مشاهدة الحرفيين خلال العمل، وتعلُّم أساسيات بعض الصناعات، ضمن ورش تفاعلية حية.


صناعة الخناجر.. تاريخ وجماليات الهوية
في ركن نابض بروح التراث الأصيل، لفت «بيت الخنيَر» الأنظار في منصة «اصنع في الإمارات»، حيث تعيد هذه العلامة التجارية المحلية إحياء إرث غني يمتد في عمق الثقافة الإماراتية. ويقول مؤسس العلامة محمود إبراهيم: «تأسس (بيت الخنير) عام 2018 في دبي، وحمل على عاتقه مهمة الحفاظ على رموز الشجاعة والكرم والقوة، من خلال إعادة إنتاج قطع تراثية، كان لها حضور بارز في الحياة الإماراتية قديماً، على رأسها الخنيَر، «الخنجر»، الذي طالما مثّل أداة زينة ودفاع، في آنٍ واحد». يعتمد «بيت الخنير» في إنتاجه على أمهر الحرفيين، ملتزماً بأعلى معايير الجودة والدقة في صناعة الخناجر، والمنتجات الإماراتية الأصيلة. واليوم، لم يعد «الخنيَر» مجرد قطعة من الماضي، بل زينة أنيقة تُرتدى في المناسبات الرسمية، محمَّلة بعبق التاريخ، وجماليات الهوية.

إبداعات مجلس «إرثي»
في مشاركته الأولى في منصة «اصنع في الإمارات»، يبرز مجلس «إرثي» للحرف المعاصرة، بحضوره اللافت ضمن الجناح التابع لوزارة الثقافة، في خطوة تمثل امتداداً لمسيرته في دعم الحِرفيات الإماراتيّات، وتمكينهن اقتصادياً واجتماعياً، فقد تأسس المجلس قبل أكثر من عقد من الزمن، بمبادرة كريمة من قرينة صاحب السمو حاكم الشارقة، سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، رئيسة مجلس «إرثي» للحرف المعاصرة، ليكون منصة حيوية تعيد إحياء الحرف اليدوية برؤية معاصرة.
وحول هذه المشاركة، قالت ريم بن كرم، من مجلس «إرثي»: «وجودنا في هذا المحفل التراثي الكبير أمر نعتز به، فالمعرض يشكّل مساحة مثالية لإبراز الحرف الإماراتية، وتكريم النساء اللواتي يقفن خلفها، ممن نسعى في «إرثي» إلى تمكينهنّ، وتوفير حياة كريمة ودخل مستدام لهنّ، عبر هذه الحرف الأصيلة».

وفي هذا الصدد، تحدثنا مع أمنية حسان، تنفيذي تطوير برامج في مجلس «إرثي» للحرف المعاصرة، حيث يشارك المجلس بورش عمل تفاعلية مع الحضور، بينها ورشة صناعة فواصل الكتاب من السفيفة، وجلود الإبل، كما تبرز لعبة «حرف» الرقمية، المتوفرة على متجر «أبل»، كأداة تعليمية تفاعلية تنقل تقنيات نسج التلي والسفيفة بأسلوب عصريّ، وجذاب. ويقدم التطبيق دليلاً مرئيّاً، خطوة بخطوة، يمزج المعرفة بالمتعة والتفاعل، ويعكس التزام «إرثي» بنقل الخبرات الحرفية باستخدام تقنيات حديثة تواكب الممارسات التعليمية المستقبلية، إضافة إلى ورشة عمل يدوية لصناعة فواصل الكتب من السفيفة، وجلود الإبل.

الفخار.. مرآة الشعوب وثقافتها
ويطالعنا بين الوجوه الحرفية التي يعكس حضورها شغفاً متأصلاً بالموروث، وجه عائشة الخييلي، الحرفية المتخصصة في صناعة الفخار، والحاصلة على بطاقة «محترف» من قبل وزارة الثقافة، حيث بدأت رحلتها كهواية عام 2018، لتتحول اليوم إلى مدرِّبة محترفة تنقل شغفها بهذا الفن العريق إلى الآخرين. تقول عائشة الخييلي إن الفخار ليس مجرّد حرفة، بل هو مرآة تعكس تاريخ الشعوب، وثقافاتها، مشيرة إلى أن مشاركتها الأولى في «اصنع في الإمارات» تمثل خطوة هامة نحو تشجيع المواطنين على إبراز مهاراتهم، وفرصة مباشرة للتفاعل مع الجمهور، والتعريف بإبداعات الحرفيين الإماراتيين.

مجوهرات تروي قصصاً من الذاكرة
ومن بين العلامات التي اختارت أن تحوِّل التراث إلى قطع فنية تلامس الذاكرة، تبرز «قافلة» للمجوهرات، التي أسّسها حمد بن شيبان بالشراكة مع عبد الله بالجافلة، قبل خمسة عشر عاماً. تستلهم العلامة تصاميمها من ذاكرة الإمارات، والخليج، من العادات، والتقاليد، والرموز التي شكَّلت وجدان الأجيال. وفي مشاركتها الحالية ضمن معرض «اصنع في الإمارات»، تعرض «قافلة» أربع مجموعات مختارة من أصل سبع، من بينها مجموعة «البحر» التي تكرِّم اللؤلؤ والغواصينن في قالب معاصر، وتجسّدها تصاميم مثل عقد «الميدان» المستوحى من أداة صيد السمك الإماراتية، والمصنوع بالكامل من اللؤلؤ. إضافة إلى مجموعة «الصك» المستلهمة من العملات القديمة، بينها مسكوكة عثمانية كويتية نادرة، أما مجموعة «مِرود»، فتستحضر عالم العطور، حيث صُممت بعض القطع لتحتوي العطر في داخلها.
ويؤكد بن شيبان أن هذه المشاركة بالتعاون مع وزارة الثقافة، لا تقتصر على عرض المجوهرات، فحسب، بل تشمل أيضاً تصميم أوسمة وطنية، مثل وسام الإمارات للثقافة والإبداع، ويختتم قائلاً: «نحن لا نصنع مجوهرات فقط، نحن نروي قصصاً عن تاريخ الإمارات، ونحوِّل ذاكرتنا الجماعية إلى تصاميم تحمل المعنى والجمال، معاً».

المطبخ الإماراتي.. أطباق متوارثة بروح متجدّدة
النكهة المحلية لم تكن غائبة عن جناح الحِرفيين، وكان لا بد من تواجد الأطعمة الإماراتية التي برزت بشكل عصري من خلال أطباق مستوحاة من المطبخ الإماراتي. وقد شكّل حضور الشيف منى المنصوري إضافة مميّزة للجناح، حيث قدّمت أربعة ابتكارات تذوّقها الزوّار بشغف، جمعت بين روح التراث وابتكار التقديم. وتضمّنت القائمة نسخة عصرية من العصيدة الإماراتية، مكوَّنة من طبقة كيك، تعلوها عصيدة تقليدية، وكريمة فانيليا. أما النكهة الثانية فكانت «المضروبة»، وقُدِّمت بطريقة جديدة من خلال طبقة من الأرز المقرمش، تعلوها المضروبة الغنية بالنكهات. ولم تغب الحلويات العالمية بروح محلية، فقدّمت المنصوري تيراميسو الهيل بنكهات شرقية مميّزة، واختتمت التجربة بمشروب كركديه إماراتي، ممزوج بماء الورد والزعفران، تعلوه رغوة ليمون، وبودرة الكركديه. هذا الحضور الذوقي الرفيع يعكس تطور المواهب الإماراتية في عالم الطهو، ويؤكد أهمية دعمها في منصات وطنية كـ«اصنع في الإمارات»، بعد أن باتت قادرة على تمثيل الدولة في المحافل العالمية، بمستوى يليق بها.

تصاميم الأثاث.. إعادة صياغة الموروث
بين الحرف والتصميم، تحضر المصممة الجود لوتاه، كأحد الأسماء البارزة في ساحة الإبداع المحلي، والمعروفة بأسلوبها المبتكر في إعادة صياغة الموروث الإماراتي ضمن قطع أثاث معاصرة، تحمل توقيع علامتها «الجود لوتاه للتصميم». وتعد مجموعة «تكية» أبرز ابتكاراتها، وهي قطع كنب مستوحاة من المخدّات التي كانت تُستخدم في المجالس، وتحاكي ذكريات الطفولة عندما كان الأطفال يكدِّسون الوسائد لبناء منازل صغيرة في خيالهم.
أما مشاركتها في معرض «اصنع في الإمارات»، فتأتي من خلال مجموعة «فلج» المستوحاة من نظام الأفلاج التقليدي في مدينة العين، الذي طوّره المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية عبر توزيع المياه بشكل متساوٍ بين العائلات، ما أسهم في ازدهار الحياة في المنطقة. ومن هذا الإرث المائي استوحت لوتاه التصاميم، فحوّلت مجرى الفلج إلى تفاصيل ملموسة تتجلى في خطوط الأثاث، من الكنب، إلى الطاولات التي تعكس انحناءات المياه، وصولاً إلى «الحصاة» التي كانت تُستخدم لإغلاق، أو تغيير مسار الفلج، في تكامل بصري، يمزج التاريخ بالوظيفة والجمال.


لعبة فريدة.. المواجهة بـ«اليولة»
من بين الزوار والمشاركين الذين لفتوا الأنظار في معرض «اصنع في الإمارات»، شاب إماراتي طموح استطاع أن يجمع بين شغفه بالتقنية، واعتزازه بالهوية الوطنية، حيث ابتكر حمد خوري لعبة رقمية تحمل فكرة فريدة من نوعها، حيث مواجهة أبطال اللعبة لا تكون بالأسلحة، أو القوى الخارقة، بل بـ«اليولة»، الرقصة التراثية الشهيرة في الإمارات. وتهدف هذه اللعبة إلى غرس حب التراث في نفوس الأجيال الجديدة، بطريقة عصرية ومسلية، وتُظهر كيف يمكن دمج العناصر الثقافية في بيئة ألعاب إلكترونية تفاعلية. كما تسلط الضوء على إمكانات قطاع البرمجة المحلي، وتشجع الشباب على خوض مجالات تطوير الألعاب، كأحد القطاعات المستقبلية الواعدة في اقتصاد المعرفة بالدولة.

المندوس.. قطعة فنية في حياة الجيل الجديد
أما رائدة الأعمال الإماراتية كلثم محمد، التي كرّست شغفها بالتراث لتطوير منتجات عصرية مستوحاة من الماضي، فتؤكد «حين كنت صغيرة، لطالما شدّني شكل المندوس في مجلس جدّي، برائحته الخشبية، ونقوشه اليدوية، لكنني كنت أتساءل: لماذا لا يرافقنا هذا الجمال في تفاصيل حياتنا اليومية؟ من هنا وُلدت فكرتي في إعادة تصميم المندوس، وحقائب الصيد، بحيث تحتفظ بروحها التراثية، ولكن بشكل يتناسب مع احتياجات الجيل الجديد. أصبح المندوس اليوم قطعة فنية وعملية، تُستخدم في الأعراس، كهدايا فاخرة، أو حتى كصندوق للمجوهرات. وكذلك حقائب الصيد، أعدتُ تصوّرها لتكون حقائب يد عصرية، للرجال والنساء، تحمل طابع الهوية، وتُعبّر عن الأناقة الإماراتية الأصيلة».

الكحل.. زينة وعلاج
من جهتها، تبين أم محمد، وهي من النساء الحافظات لفنون الزينة التقليدية: «الكحل عندنا لم يكن زينة فقط، بل كان رمزاً من رموز الجمال والأصالة، وله مكانة كبيرة في قلوب النساء. تعلّمت صناعته من أمي، وكانت تصنعه بنفسها من حجر الأثمد، تطحنه برفق، وتخزنه في علبة صغيرة من النحاس. كنا نستخدمه للزينة، وأيضاً للوقاية، لأنه معروف بفوائده للعين. صناعة الكحل لا تمثل حرفة فقط، بل هي إرث ننقله من جيل إلى جيل، وأنا إلى اليوم أعلّمه لحفيداتي، حتى يظل هذا التراث حيّاً في بيوتنا، ولا يضيع في زحمة التطور».