12 مايو 2025

بينها وشوم للعلاج وجراحة للدماغ.. اكتشافات مدهشة لدى بشر ما قبل التاريخ

أستاذة وباحثة جامعية

مجلة كل الأسرة

ما فتئت حقبة ما قبل التاريخ تكشف لنا عن أسرار لم تكن واردة على بال. فقد قلبت أحدث الاكتشافات الأثرية، في السنوات الأخيرة، نظرتنا إلى هذه الحقبة رأساً على عقب.

بعيداً من الصورة التبسيطية لإنسان الكهف البدائي، والعنيف، كشف العلماء عن واقع يدعو إلى الدهشة، لكونه أشدّ تعقيداً بكثير. من آثار الوشوم على مومياءات يفوق عمرها خمسة آلاف سنة، إلى إثباتات تفيد عن ممارسات أكلة لحوم البشر، مروراً باكتشاف زينة وحليّ جسدية معقدة.. يميط كل اكتشاف اللثام عن شظية ما، من ماضٍ سحيق، غني، وملوّن، لم نكن نتخيّل أنه كان على هذه الصورة.

تسمح تحليلات الحمض النووي، إضافة إلى تقنيات التصوير الحديثة، بإعادة تركيب دقيق لنمط حياة أسلافنا القدماء، بما فيه نمط الغذاء، والشعائر التي كانت تمارس، ومبادراتهم الجمالية. وقد رسم هذا التقدم العلمي صورة عن بشرية ما قبل التاريخ، تتسم بالإبداع، والروحانية، والتنظيم الاجتماعي، بعيداً جداً من الصور النمطية التي سادت منذ أجيال.

مجلة كل الأسرة

الإنسان القديم كان يلجأ إلى جراحة متقدمة

يتميز إنسان العصر النيوليثي بمهارة فائقة في مجال الجراحة! والإثبات على هذا أنه كان يمارس آنذاك عملية فتح الجمجمة، وهي عملية ثبتت ممارستها على أكثر من 1500 جمجمة من العالم أجمع. ويدل التئام الجرح على معظم هذه الجماجم أن المريض قد عاش لأشهر عدّة، وحتى لسنوات بعد العملية. واعتقد أول مكتشفي الجماجم، في القرن التاسع عشر، أن فتح الجمجمة كان نوعاً من ممارسة شعائرية، كصناعة كوب للشراب من جمجمة عدو، أو جمع بقايا... واليوم يميل علماء الآثار، بشكل مؤكد، إلى أن فتح الجمجمة كانت له أسبابه الطبية.

مجلة كل الأسرة

وشوم على وشوم

أكثر المومياءات شهرة من حقبة ما قبل التاريخ، هي مومياء «أوتزي» المملوءة بالوشوم. واكتُشف «رجل الجليد» في جبال الألب، وقد كان مطموراً في الجليد منذ 5300 سنة، بوشومه الـ61. لكن ماذا تعني هذه الخطوط العمودية الصغيرة على طول عموده الفقري، وهذه الصلبان في ثنية ركبتيه؟ إن كونها صغيرة، وفي أماكن خفية يلغي فرضية «رمز الهوية»، ويرجح فرضية الرسوم العلاجية. وقد أثبت صورة «سكانر» أجريت على «أوتزي»، الذي توفي في سِن الخامسة والأربعين، أنه كان يعاني التهاباص في المفاصل، وفي فقرات الظهر، أي في المكان نفسه الذي رسمت فيه الوشوم.

أكل لحوم البشر سلوك مؤكد

لقد ثبت أن البشر، الذين كانوا يعتاشون من الصيد والقطاف في العصر الباليوليثي البعيد، كانوا يأكلون لحوم البشر. ويرجع الأثر الأقدم لهذا السلوك إلى 000 800 سنة إلى الوراء، في موقع «غراندولينا» في إسبانيا، حيث تم العثور على أحد عشر هيكلاً عظمياً، وأغلبيتها من الأطفال، تحمل آثار تقطيع واستخراج للنخاع العظمي. وإذا كان أكل لحوم البشر مدفوعاً أحياناً بأسباب تتصل بالبقاء على قيد الحياة، إلا أن الاكتشافات الأثرية تميل إلى ترجيح كفة الممارسات الشعائرية.

ففي «هركسهايم»، في ألمانيا، في موقع يرجع تاريخه إلى ما بين 5000 و5300 سنة، عثر على مئات الهياكل العظمية التي تحمل آثار تقطيع، وضربات على الرأس، وعثر أيضاً على جماجم شُكِّلت على طريقة أكواب للشراب. ونظراً إلى أن معظم هذه الهياكل تعود إلى أشخاص في سِن الشباب، فقد رُجِّح أن هذه المذبحة قد نُظِّمت أثناء احتفالات شعائرية.

مجلة كل الأسرة

منازل من عظام حيوان الماموث

تخيّلوا بنياناً كبيراً من عظام حيوان الماموث الضخم. هذا ما اكتشفه علماء الآثار في موقع «كوستنكي» في روسيا. وتعد هذه البنية أكبر ما اكتشف، إذ يبلغ قطرها 12،50 متر، وأقدمه كذلك، إذ يعود تاريخها إلى 000 25 سنة، لكنها ليست البنية الوحيدة التي اكتُشفت. فقد عثر على هذا النمط من الأبنية في إيطاليا، وأوروبا الشرقية، ويعود تاريخها إلى ما بين 000 12 و000 25 سنة. ولم تستخدم عظام الماموث بسبب ندرة الأشجار، بل يبدو أن استعمالها كان يحمل بعداً رمزياً.

إنسان ما قبل التاريخ كان يتزيّن بالحلي

لم يكن «هومو سابينس» غير مكترث بجمال مظهره! فأقدم أدوات الزينة يرجع تاريخها إلى 000 142 سنة إلى الوراء، وقد اكتشفت في مغارة «بيزمون» في المغرب، وهي عبارة عن صدفيات مثقوبة تحمل آثار تلاوين حمراء، وفي أوروبا، كانت تصنع القلادات من أسنان الحيوانات. وربما كانت هذه الحلي دلالة على انتماء إلى قبيلة، أو مجموعة بشرية معيّنة، أو ربما كانت توضع لإظهار فردية الشخص، أو قد تكون علامة على موقعه الاجتماعي المرموق. وفي قرية «سان جرمان لا ريفيير»، في مقاطعة «جيروند» في فرنسا، تم العثور على 72 سن غزال مثقوبة، ومزينة بأثلام صغيرة لتحويلها إلى قلادة، وقد وضعت في قبر امرأة يرجع تاريخها إلى 000 17 سنة إلى الوراء.

مجلة كل الأسرة

.. ويحب الموسيقى

أقدم آلة موسيقية عُثر عليها هي نايٌ يبلغ طوله 22 سنتيمتراً، صنع من عظمة نسر، ويرجع تاريخه إلى 000 40 سنة إلى الوراء، وقد تم اكتشافه في موقع «هول كلس»، في ألمانيا، وهو يصدر نغمات حادة. وقد عثر على الكثير من آلات الناي المصنوعة من عظام الطيور في أوروبا، وفي الشرق الأوسط، لكن إنسان ما قبل التاريخ لم يكن عازف ناي، وحسب، فقد اكتشف علماء الآثار صفارات من عظام الغزلان. وفي العصر الباليوليثي، يعتقد أن البشر كانوا يعزفون على «الرومب»، وهي آلة تصدر هديراً وهي تدور حول حبل صغير. وقد كشفت مغارة «مرسولاس» في جبال البرانس، عن آلة فريدة هي عبارة عن صدفة بحرية كبيرة يرجع تاريخها إلى 000 18 سنة إلى الوراء وقد صنعت بطريقة تستطيع فيها أن تصدر أصواتاً. وقد استخدمت الكهوف ذاتها كصناديق رنّانة مثالية، إذ عُثر على آثار ضرب على الهوابط والصواعد فيها، وأيضاً على حجارة حُملت إليها من الخارج.