
لا تقتصر الرفاهية في العمل على رواتب مجزية، ومزايا تحفيزية، بل تتجاوزها إلى بيئة عمل إيجابية، وتوازن حقيقي وعملي، بين متطلبات العمل، والتزامات الأسرة والمجتمع.ففي عالم متسارع الخطى ,باتت رفاهية الفرد عنصرا أساسيا لنجاحه الوظيفي وتعزيز إنتاجيته وحتى تدعيم ولائه المهني ,مما ينعكس إيجابا على بيئة العمل وحتى على العلاقة مع الأسرة.
فكيف يحقق الفرد رفاهيته في العمل وما هي أبعاد تلك الرفاهية وارتباطها بإعادة تعريف مفهوم العمل وضرورة توازنه بين الأداء والرفاه؟

لدى عبد الرحمن بن ساحوه السويدي، محامٍ، الأسرار الخاصة بتحقيق رفاه الموظف، وهي أسرار نتيجة خبرة عملية امتدّت لسنوات في مجال الإدارة والموارد البشرية وتطوير الذات.
يقول «لتحقيق الرفاه في العمل، القاعدة الأولى هي أن تذهب إلى العمل كأنك ذاهب إلى موعد غرامي، فالعمل بحب يخفّف من وطأة الضغط على الفرد، عدا عن تدليل نفسك، والذهاب للعمل بكامل زينتك، بما يحمل ذلك من طاقة إيجابية».
ورغم تقاعده، فإن بن ساحوه يواكب ضغوطات العصر الحديث بالانفتاح على كل المستجدات من موقعه كـ«نائب رئيس الاتحاد العربي للتدريب والتعليم الموازي في جامعة الدول العربية»، ويبيّن «ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وهذه المقولة لا بدّ من تطبيقها على الدوام، حيث ما للدوام للدوام، والوقت المتبقي من يومك لا بدّ أن ترتاح فيه، وتتواصل مع عائلتك، وتعزّز علاقاتك الاجتماعية، وإلّا وقعت في روتين قاتل».
كان بن ساحوه خلال عمله يحارب الروتين بطريقته «في بعض الأحيان، كنت أغيّر الطريق الذي يقودني إلى العمل، من باب تغيير الروتين اليومي، وتغيير المناظر التي أرصدها يومياً، تفادياً للملل، والضجر».
ولكن الأهم، بالنسبة إلى صاحب الخبرة، ثلاثة أمور رئيسية، يوصي بها لتحقيق الرفاه في العمل:
- العمل الجاد باعتبار أن العمل هو المنزل الثاني لك، والحفاظ على أسرار العمل، وعلى الأدوات التي تستخدمها.
- التجديد والتطوير من نفسك ومهاراتك، لكي لا تقع أسير الروتين اليومي المُمل، وفتح آفاق جدية للإبداع أمامك.
- تحقيق مبدأ التوازن عبر استخدام خاصية «restart» لعقلك، بمعنى التحكم في دوامك وإنجاز واجباتك وإعطاء نفسك الحق في الاستمتاع بعد الدوام، والتواصل مع محيطك الاجتماعي.

الرفاهية في العمل.. قرار
عبد الرحمن بن ساحوه ليس النموذج الوحيد. منى السويدي تعتبر أمّاً ناجحة، حيث استطاعت أن توازن بين عملها، وحياتها الأسرية والاجتماعية، على مدى عشرين عاماً من الدوام، بـ8 ساعات، يومياً.
تقرّ السويدي بأنها وضعت أولويات في حياتها «علّمت ابنيّ على الاعتماد على النفس والاستقلالية، وتكون فترة ما بعد الدوام مخصصة لأمومتي، حيث تجمعني وأسرتي مائدة الغداء، وحوار معمّق حول يومياتنا، مع التطوع في مجالات مختلفة».
فالرفاهية في العمل هي قرار اتخذته تلك الأم عبر الفصل بين متطلبات العمل، والتزامات المنزل، من دون أن تتوانى عن طلب الدعم عند الحاجة، مع إعطاء كل ذي حق حقه، وترتيب الأولويات، وتنحية الأمور الثانوية.

بين الرفاهية والاحتراق الوظيفي
ويبقى السؤال، ما الأخطاء التي تعيقنا عن تحقيق الرفاهية في العمل، وما العلامات النفسية والسلوكية التي تجسد احتراقنا الوظيفي، وكيف السبيل إلى العلاج؟
ترصد الدكتورة حنان محمود قنديل، أخصائية الطب النفسي بمستشفى ميدكير الشارقة، ومستشفى ميدكير رويال التخصصي، العلامات النفسية والسلوكية التي تشير إلى إدمان العمل، وتتوقف أولاً عند العلامات النفسية، وهي:
- التفكير باستمرار في العمل، حتى أثناء فترة فراغك الشخصي، أو فترة الترفيه.
- الشعور بالذنب عند عدم العمل، أو عدم الراحة عند أخذ فترات راحة، أو إجازة.
- وضع معايير وتوقعات عالية بشكل غير واقعي في العمل، والنقد الذاتي المفرط عندما لا تفي بها.
- الخوف من الفشل: القلق المفرط بشأن تردّي الأداء، أو خيبة أمل الآخرين بك في العمل.
- فقدان الاهتمام بالأنشطة غير المتعلقة بالعمل: عدم الحرص على ممارسة الهوايات، أو التواصل الاجتماعي، أو غيرها.
- تقلبات المزاج: الإجهاد المرتبط بالعمل الذي يؤدي إلى التهيّج، أو القلق، أو حتى الاكتئاب.

كما ترصد د. حنان العلامات السلوكية:
- ساعات العمل الطويلة.
- عدم القدرة على إسناد بعض المهام لزملاء آخرين في العمل.
- إهمال الحياة الشخصية.
- استخدام العمل للهروب: كوسيلة لتجنب المشاكل الشخصية، أو النزاعات، أو العواطف.
وتتلمس أخصائية الطب النفسي آثار الإفراط في العمل في الصحة العقلية:
- القلق والإرهاق العاطفي.
- التعب الشديد، ونقص الحافز، والانفصال العاطفي.
- تعطيل أنماط النوم، ما يؤدي إلى الأرق، أو النوم الرديء، وبالتالي مفاقمة مشكلات الصحة العقلية.
- عزلة اجتماعية، وتوتر العلاقات الشخصية، ما يؤدي إلى الشعور بالوحدة والضيق العاطفي.

كيف تحقق التوازن بين العمل وحياتك؟
وحول أفضل الاستراتيجيات النفسية التي يمكن للموظف اتّباعها لتحقيق توازن صحي بين العمل، وحياته الاجتماعية والشخصية، توجه د. حنان محمود قنديل إلى:
- وضع حدود واضحة بين العمل والحياة الشخصية: حدّد ساعات العمل، والتزم بها، وتجنب التحقق من رسائل البريد الإلكتروني، أو الرد على مكالمات العمل خارج هذه الساعات.
- إدارة الوقت بفعالية: قسّم المهام الكبرى إلى مهام أصغر يمكن إدارتها وتجنّب تعدّد المهام.
- تعلّم أن تقول لا: ارفض بأدب العمل الإضافي الذي من شأنه أن يتداخل مع وقتك الشخصي.
- خذ فترات راحة منتظمة: خذ استراحة لمدة 5 دقائق بعد كل 25 دقيقة من العمل، حتى تتمكن من إنعاش عقلك، وتوجيه انتباهك إلى مهمتك•
- الانخراط في التأمل الذهني أو تمارين التنفس العميق: تعرف إلى مسببات التوتر وقم بتطوير استراتيجيات للتأقلم معها، مثل تدوين اليوميات، أو تقنيات الاسترخاء.
- الانخراط في الهوايات والأنشطة الاجتماعية: حدّد موعداً للأنشطة المنتظمة التي تجلب الفرح، مثل الرياضة، أو الفن، أو القراءة، أو قضاء الوقت مع العائلة، والحفاظ على الروابط الاجتماعية خارج العمل.
- حافظ على نمط حياة صحي: مارس الرياضة بانتظام، وتناول الأطعمة المغذية، واحصل على قسط كاف من النوم للحفاظ على مستويات الطاقة لديك.
- تجنب الإفراط في تناول الكافيين، أو قضاء وقت طويل أمام الشاشة قبل النوم.
- اطلب الدعم عند الحاجة: إذا أصبح الحفاظ على التوازن بين العمل والحياة تحدّياً، وإذا أصبح التوتر والقلق لديك مربكاً، فاطلب المساعدة المهنية.

التوازن ليس السّر.. بل التكيّف
إذن، تحقيق الرفاهية في العمل ممكنة وسط الضغوط من دون التأثير في الإنتاجية، أو العلاقات. فما الأسرار التي تزودنا بها سماح بداوي، مدربة حياة ومستشارة علاقات، لتحقيقها؟
تلفت سماح إلى أنّ «الطريقة التي نرى بها ضغوط العمل في عقولنا هي المفتاح لتحقيق التوازن الذي نحتاج إليه، والتعامل مع الضغوطات بذكاء يمكن أن يصنع فرقاً كبيراً بين الإرهاق، والرفاهية الحقيقية».
وتوضح «الحقيقة أن الضغط هو جزء من الحياة المهنية. عندما نتقبل وجوده، ونتعامل معه بأساليب عملية، مثل تنظيم المهام، تقسيمها إلى خطوات صغيرة، وأخذ فواصل قصيرة لاستعادة الطاقة الذهنية، يصبح أكثر قابلية للإدارة، وأقل تأثيراً في صحتنا وحياتنا. والاعتقاد بأن التوازن يعني المثالية قد يكون بحد ذاته مصدراً للضغط، فالحياة ليست جدولاً منظماً بدقة، بين العمل والحياة الشخصية، بل سلسلة من التكيّفات المستمرة مع متغيّرات الحياة».
وتورد مدربة الحياة بعض الأسرار التي تساعدنا على تحقيق الرفاهية في العمل، مصرّة على أن «السّر يكمن في المرونة، والوعي الذاتي، وليس في تحقيق معادلة صارمة». تشرح «لا بد من التركيز على جودة الوقت، وليس كميته. ساعة واحدة من العمل المركّز قد تكون أكثر إنتاجية من ثلاث ساعات مملوءة بالمشتتات، ولحظة صادقة مع العائلة قد تكون أكثر قيمة من يوم كامل منشغل بالمهمّات السطحية».

خطوات تحقيق الرفاهية في العمل
وتزوّدنا سماح بداوي بجملة خطوات لتحقيق رفاهيتنا في العمل:
- تحديد أولويات اليوم منذ الصباح قبل الانشغال بمهام اليوم: من المفيد تحديد أهم ثلاثة أهداف، والتركيز عليها، ما يساعد على توجيه الجهد نحو ما هو ضروري، بدلاً من الانشغال بالأمور الثانوية.
- العمل وفق فترات الطاقة الطبيعية للجسم: أجسامنا تمرّ بموجات من الطاقة خلال اليوم، ومن المفيد استغلال فترات الذروة لإنجاز المهام الصعبة، وترك المهام الأقل أهمية للأوقات التي تنخفض فيها الطاقة.
- عدم تصفّح البريد الإلكتروني، أو الرّد على المكالمات المهنية بعد وقت معيّن مساء: ما يمنح العقل فرصة للاسترخاء، ويعزز جودة النوم، والاستعداد ليوم جديد بطاقة متجدّدة.
- وضع قواعد شخصية تحدّد ما هو مقبول، وما هو خارج حدود التوازن الصحي: فاستنزاف طاقتنا من دون إعادة شحنها، مع مرور الوقت، تقلّل قدرتنا على الإنجاز والعطاء، حتى نصل إلى نقطة الإرهاق، وربما الانهيار. وتخلص سماح بداوي إلى أن «الرفاهية الحقيقية تبدأ عندما ندرك أننا لسنا مجبرين على الاختيار بين النجاح المهني، والحياة الشخصية، بل يمكننا تحقيق الاثنين عبر إدارة ذكية للطاقة، والوقت، والعلاقات».