260 عاماً على كريستال «باكاراه».. أسّسه لويس الخامس عشر وأصبح رفيق الملوك والأمراء

على مدى أكثر من قرنين ونصف القرن، ما زال كريستال «باكاراه» الفرنسي يسحر الناظرين، ويتألّق على موائد الملوك، والأمراء، وعلية القوم، في العالم أجمع. والمصنع الذي أمر الملك لويس الخامس عشر بتأسيسه عام 1764 يعتمد اليوم على الخبرات المتراكمة للعمال الماهرين فيه، وعلى الشهرة التي باتت ترتبط باسمه.

للاحتفال بالذكرة 260 لتأسيس المصنع، قرّرت الإدارة إطلاق مجموعة من الثريات ومصابيح الإنارة الفاخرة، تحت اسم «نيو أنتيك»، وهي مجموعة مؤلفة من العديد من القطع المبهرة، ومنها ثريا مستديرة حديثة الطراز، جاءت ثمرة للتعاون مع المصمم الهولندي مارسيل واندرز. وهو ليس التعاون الأول، بل تعود علاقة المصمم بمصنع «باكاراه» إلى ما قبل 15 عاماً. كان الهدف إحداث ثورة في الذوق الذي تعارف على ثريات القرن الماضي ذات الأحجار الكثيرة، والمصابيح المختلفة التي تتدلى من حلقة مركزية. وبهذا، فإن تصاميم واندرز تتطلع نحو المستقبل، وما يميل إليه الفرد المعاصر من بساطة، وأناقة حديثة. إنه المزج بين التقاليد، وبين التجديد، لبلوغ تحف معاصرة ولا تزول موضتها.

«باكاراه» عنوان الثقافة والجمال والترف
تأسست أولى ورش «باكاراه» في مقاطعة اللورين الفرنسية، (شمال شرقي البلاد). كان ذلك بعد أن أعطى الملك لويس الرابع عشر موافقته على تأسيس مصنع للكريستال، سيصبح، مع مرور السنوات، الأرقى في العالم، والمصدر الذي تستورد منه العائلات النبيلة أطقم السفرة التي تتفاخر بها في ولائمها، وعلى موائدها. إن ما يخرج من المصنع ليس مجرّد أطباق، ومزهريات، وثريات، تبهر النظر، بل تاريخ ممتد من الثقافة، والجمال، وإتقان الصناعة المتوارثة من جيل لجيل. فقد اعتاد القائمون على المصنع تنظيم معارض دورية لتقديم أشهر القطع التي أبدعتها أنامل العاملين. فلكل منها حكاية، ولكل بريق ذكرى، وهي حكايات وذكريات تستدعي الفضول، لأنها ترتبط بأسماء ملوك، وأميرات شهيرات، كان الترف طبعاً لديهم. وبهذا، فإن «باكاراه»، الذي أخذ اسمه من البلدة الصغيرة التي احتضنت مصنعه الأول، جعل من الاسم عنواناً للتفوق، والذوق الرفيع.

أقداح تعزف سيمفونية
ليست هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن «باكاراه». وأذكر أنني حين زرت المعرض الذي أقيم في صالات القصر الكبير في باريس، قبل سنوات، ورأيت مائدة منصوبة بكامل عدّتها، شعرت وكأنني في متحف. ويومها كتبت: «تكفي رؤية المزهريات العامرة بالزنابق، والأطباق التي يستقر أصغرها في قلب أكبرها، وصفوف الأقداح الرقيقة المنقوشة حتى ليخيل إليك أنك تسمع تلك الموسيقى الناعمة لرنين الكريستال عند قرع الأنخاب، وهمسات المدعوين الجالسين حول المائدة، وضحكاتهم، وهمهماتهم المعبّرة عن الاستحسان والشهية لأطايب الطعام. إن القطع تتوزع بنظام دقيق على المائدة ذات المفرش الأبيض. وهناك خبراء وخبيرات مهمتهم قياس المسافة بين طبق وطبق، وبين قدح وقدح، بحيث أن السنتمتر الواحد يفرق في هذه السمفونية».

هناك مثلاً «زجاج هاركور»، وهو تلك القطع التي تحمل الأحرف الأولى للعائلة الملكية الفرنسية. لقد صنعت بناء على طلب الملك لويس فيليب، عام 1841، وفيما بعد كتب مؤرخو الصناعات الرفيعة أن أسطورة قد رأت النور في ذلك اليوم. وهي أسطورة بالفعل، لأن موائد في قصور عالمية عمدت إلى تبنّيها، مثل مائدة نابليون الثالث، والقصر الملكي في المغرب، والبابا يوحنا بولس الثاني، وملكة سيام. وبحسب دليل المعرض فإن هذا الطراز ظل مطلوباً لجمالياته، وأيضاً لأنه عابر للموضات، وتقلّبات الأذواق.

بريق الألعاب النارية
بدأ كريستال «باكاراه» باعتماد الألوان في صناعته منذ عام 1839، وهي انعطافة مهمة في تاريخ الدار، تجلّت في سيطرة صانعيها على تقنيات الكريستال المبطّن بالألوان التي صارت ميزة تتفوق بها على المصانع الأخرى. وما زالت تلك التقنية مستعملة حتى اليوم، ويجري تطبيقها على القطع بالغة التوشيح، حيث إن انعكاسات الأضواء على تلك القطع تجعلها تبرق مثل الألعاب النارية.
قدّم المصنع قطعاً مسماة بـ«الأحمر المذهّب». وتأتي قوة هذه المادة من الجمع بين الكريستال الشفاف، ومسحوق الذهب من عيار 24 قيراطاً، وهي مزاوجة فريدة تنتج لوناً قرمزياً متدرجاً، ومتوهجاً حسب الرغبة، وأقصى درجاتها تتمثل في الأحمر الياقوتي، ومنه صنعت المزهريتان الفخمتان «سيمون»، اللتان عرضتا لأول مرة في المعرض الكوني الذي أُقيم في باريس، عام 1867.

الصين.. إذا عجزت عن التقليد، اشترِه
يصعب تقليد مهارة «الأسطوات» العاملين لدى «باكاراه». وحتى الصين التي اشتهرت بتقليد كل بضاعة، وقفت عاجزة عن إنتاج كريستال بهذه التقنيات. وحتى لو نجح الصينيون في التقليد فإنهم لا يستطيعون شراء التاريخ المسجل باسم المصنع الفرنسي. لهذا دخلوا شركاء فيه، وكادوا يستولون على معظم أسهمه. وينص العقد الموقع مع مجموعة صينية للاستثمارات، على شراء ما يقرب من 89 في المئة من أسهم «باكاراه» مقابل 222 يورو للسهم الواحد. وقد تعهد المالك الصيني الجديد أن يحافظ على تركيز الإنتاج في الموقع الفرنسي الحالي، والحفاظ على الأيدي العاملة.
هناك باستمرار تلاميذ متدربون يشتغلون للوصول إلى مشارف الكمال. ولا يكفي الذوق السليم لتحقيق ذلك، بل الأناقة في حركة الأنامل، والرهافة في الابتكار. إنها مهارات تعكس الإرث الفذ الذي وصل إليهم عبر قرون من التصميم، والتجريب، والإتقان. فالمهنة تحتاج إلى عدة تخصصات: فهناك من ينفخ في الزجاج، ومن يقطعه، ومن ينقش عليه، ومن يُذهّبه، ومن يصقله، وكل منهم يضع نصب عينيه أنه سليل حقب من الإبداع. إن كل قارورة، وكل مزهرية، وكل قدح، وكل ثريا، وعد بالجمال الأقصى، ولا ننسى أن المصنع كان قد تعرض لحريق جزئي، في صيف 2010، ثم انبعثت الأسطورة من رمادها، وواصلت بث الجمال على الموائد الباذخة، لمن استطاع، أو لمتعة الفرجة، على الأقل.