
بعد عقد قرانها بثلاثة أشهر، أصرّت طبيبة الأسنان على فسخ عقد زواجها، وقبل زفافها بأيام... حاولت أسرتها كثيراً إقناعها بأن العريس ينتمي إلى أسرة محترمة، وأشقاءه يعيشون حياة زوجية سعيدة مع زوجاتهم، والعريس يحبها فعلاً، ويتمسك بها، لكن من دون جدوى. انشغلت الأسرة بالبحث عن السبب. وبعد أن تم الطلاق كشفت العروس المطلقة لشقيقتها عن سبب إصرارها على الطلاق، قائلة إنها عملت بنصيحة «قارئة فنجان» أخبرتها أن علاقتها بزوجها ستنتهي سريعاً، وأنه سيتزوج عليها، والأفضل تتخلص منه سريعاً.
أصطحبها والدها- وهو أستاذ جامعي- بعد أن عرف سبب الطلاق، إلى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف لكي تستمتع من علمائها لحكم الشرع في ما يقوم به الدجالون، وأدعياء علم الغيب، وقراءة الكفّ والفنجان وغير ذلك من أشكال الدجل المتنوعة. وهناك سمعت من علماء الفتوى ما يكفي لكي تنصرف عن كل ما يردّده هؤلاء من ادّعاءات كاذبة يسيطرون بها على عقول الناس، ومشاعرهم، وعواطفهم، وللأسف، يقع ضحية لهم كثير من المتعلمات، حيث يجدون ضالّتهم في أوساط النساء.
الدجالون... والنساء
في البداية، سألنا العالم الأزهري د. علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر الأسبق: لماذا يجد الدجالون ضالّتهم أكثر بين النساء؟ فأجاب قائلاً «اللجوء إلى المنجمين والمشعوذين، والإيمان بالأبراج، وتفسير الأحلام ،وقراءة الفنجان والكف، وغير ذلك من أنماط وأشكال الدجل المنتشرة الآن في البلاد العربية، معتقدات فاسدة وراسخة- للأسف- في قلوب الكثيرين، وهي لا تقف عند حدود طبقة اجتماعية أو ثقافية معيّنة، ولا تقتصر على جنس دون آخر، ولكن هناك الكثير من المؤشرات تؤكد أن قوتها تزيد في أوساط النساء. والسبب أن المرأة بطبيعتها عاطفية، وتؤثر فيها مزاعم مدّعي علم الغيب، لأنها أكثر حرصاً على مستقبلها مع شريك حياتها، وأكثر تطلعاً للاستقرار الأسري».
ما يردّدونه ضد العلم، وضد العقل، وضد المنطق، وضد تعاليم وتوجيهات الدين
ويضيف: «للأسف، هناك نساء متعلمات ومثقفات تؤثر فيهن مزاعم الدجالين، وهذه مشكلة، لأن المفترض أن التعليم والثقافة الصحيحة يحميان عقولنا من تصديق هؤلاء والاستماع لهم، وعدم اللجوء إليهم، لأن ما يردّدونه ضد العلم، وضد العقل، وضد المنطق، وضد تعاليم وتوجيهات الدين».
ويؤكد عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، أن الوسيلة الوحيدة لمحاربة الدجل والشعوذة في أوساط النساء هي نشر الوعي الديني الصحيح بين الناس، ومحاربة كل وسائل الإعلام للدجالين والمشعوذين «للأسف الشديد، أن بعض الفضائيات العربية تروّج للدجل والشعوذة، وتنشر الخرافات بين الجماهير الكبيرة التي تشاهدها عن طريق استضافة بعضهم، والحديث عن قدراتهم على معرفة الغيب، والتنبؤ بما سيحدث مستقبلاً. والغيب لا يعلمه إلا الله، بنصوص ثابتة في القرآن والسنة».
خسائر كثيرة ومتنوعة
وعن حجم خسائر تصديق الدجالين وأدعياء علم الغيب على المواطن العربي، رجلاً أو امرأة، يشير د.علي جمعة: «الخسائر كثيرة ومتنوعة، أخطرها من وجهة نظري الجانب العقائدي والنفسي، لأن من يعتقد بصحة هذه المزاعم سيضحي بكل شيء. قد يخسر ماله، وصحته، وحياته الأسرية والزوجية، وقد يخسر حياته، وهناك رجال ونساء انتحروا لإيمانهم بمزاعم باطلة.
لذلك، يجب حماية عقول الإنسان العربي- رجلاً كان أو امرأة- من أكاذيب الدجالين وأدعياء علم الغيب، ولو يعرف القائمون على فضائياتنا خطورة استضافة هؤلاء لما أقدموا على ذلك، لكن البعض يتعامل مع الأمر على أنه مجرّد تسلية، مع أنه تغييب واضح للعقول، ونشر ثقافة تتصادم مع تعاليم الدين، وهو أمر خطر للغاية، نحذّر منه كل يوم. فكثيراً ما نقرأ ونسمع عن جرائم أخلاقية، واعتداء على الحرمات والأعراض بسبب ممارسة الدجل والشعوذة، وقد يصل الأمر إلى القتل بدعوى إخراج الجن، أو طرده من جسم المرأة، أو إنجاب الأطفال، وفك الأعمال، وتيسير الأحوال، والكارثة الكبرى أن ضحاياه لم يقتصرن على السيدات البسيطات وضعيفات الثقافة والعلم، وحدهن، ولكن وصل الأمر إلى طبقات المثقفات والمتعلمات أيضاً. كما أن جلسات قراءة «الفنجان، والكوتشينة، وقراءة الكف، وفتح المندل، وضرب الودع»، تجذب بشكل كبير النساء، وتبدأ دائما بدافع الفضول والرغبة المحمومة في كشف غموض المستقبل، ولكنها تنتهي بالوقوع في مخالفات شرعية».

نصب واحتيال
من جهتها، تحذّر د. آمنة نصير، أستاذة العقيدة والعميدة الأزهرية السابقة، من وقوع كثير من النساء ضحية الدجالين وباعة الأوهام. وتبيّن «للأسف، المشكلات النفسية التي تتعرض لها النساء، وسيطرة الخوف من المستقبل عليهن، تدفع الكثيرات منهن إلى محاولة معرفة الغيب، والتنبؤ بالمستقبل عن طريق اللجوء للمنجمين، بخاصة عندما تتعرض المرأة لمواقف معقدة في الواقع، وتعجز عن التعامل مع هذا الواقع بوضوح، وهناك أخريات يلجأن إلى هذه الخرافات عندما يتعرضن لحالات الإحباط، والاكتئاب، والشعور بالضيق. وللأسف، هناك من الأدعياء الكثيرون الذين يزعمون معرفة الغيب وأنهم يستطيعون قراءة الطالع، ومعرفة المستقبل من خلال التنجيم، وقراءة «الكف والكوتشينة والفنجان»، إلى آخر هذه الأمور التي لم يرد بشأنها دليل شرعي، ولا يقرّها عقل يستند إلى العلم والمنطق، بل هي اختراعات من قبل أناس تهدف إلى النصب والاحتيال على الضائقين بأمور حياتهم، والمحبطين الهاربين من الواقع الملموس لتحقيق أرباح مادية».
العقلاء من الناس يلتمسون علاج أمراضهم عند الأطباء المتخصصين، وليس عند الدجالين
وتوضح د. آمنة نصير أن الإسلام حرّم اللجوء إلى هؤلاء المنجمين، وشدّدت على عقوبة من يذهب إليهم، فهو يخرج من دائرة الإيمان الصادق، لو علم بالحكم الشرعي ولجأ إليهم بعد ذلك، أما من يذهب إليهم جاهلاً بالحكم الشرعي فعليه أن يتوب عن ذلك، ويستغفر الله، ولا يعود إلى ذلك، والله لا يحاسب إنساناً على سلوك ارتكبه وهو لا يعلم أنه حرام.
لذلك، تحذر العميدة الأزهرية السابقة من استمرار الترويج للدجل والشعوذة في البلاد العربية، حرصاً على سلامة العقيدة، وحماية لعقول الناس وأجسادهم، من التعرض للخرافات التي يروّجها البعض تحت ستار ديني، والدين منها بريء. وتطالب الجماهير العربية –رجالاً ونساء- باحترام العلم والعقل، وعدم الاستسلام لدعاوى الدجالين والمتاجرين بالدين الذين يوهمون ضحاياهم بعلاج أمراضهم، وتخليصهم من مشكلاتهم بالقرآن «فالعقلاء من الناس يلتمسون علاج أمراضهم عند الأطباء المتخصصين، وليس عند الدجالين الذين يزعمون علاج مختلف الأمراض بالقرآن، أو بطرق بعيدة عن العلم».
معصية كبرى
كما يعبر الفقيه الأزهري د. عبدالله النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية والعميد الأسبق لكلية الدراسات العليا بجامعة الأزهر، عن أسفه لانتشار أنماط الدجل والشعوذة في البيئة العربية التي يصفها بأنها «بيئة آمنة للدجالين، والمشعوذين، وتجار بيع الوهم للبسطاء، تحت شعارات وستارات دينية، والدين منها بريء».
ويؤكد «نحن في عصر العلم والذكاء الاصطناعي، ولا يصح أن تستمر أشكال الدجل والشعوذة تمارس في مجتمعاتنا العربية، وأن ينفق العرب على الدجل والخرافات مئات الملايين، وربما المليارات كل عام!!».
الإنسان هنا يغيب عقله، ويتخلى عن معتقداته الدينية الصحيحة، ويطلب العون ممن لا يملك العون
ويضيف: «لجوء مسلم إلى الدجالين والمشعوذين بحثاً عن حلّ لمشكلته، أو بحثاً عن علاج لمرضه، يؤكد وجود خلل فكري، وتشوش ديني، كما يؤكد أن مفاهيم الدين الصحيحة لا تزال غائبة عن بعض المسلمين، وفي ظل غياب المفاهيم والقيم والتعاليم الدينية الصحيحة يجد الدجالون والمشعوذون ضالّتهم، وينشرون ضلالهم بين الناس، بسهولة ويسر. ولو رجع الناس إلى تعاليم الإسلام، لأدركوا أن اللجوء إلى الدجالين لمساعدتهم على حل مشكلاتهم «معصية كبرى»، لأن الإنسان هنا يغيب عقله، ويتخلى عن معتقداته الدينية الصحيحة، ويطلب العون ممن لا يملك العون».
موقف شرعي حاسم
وعن موقف الشرع من سلوك هؤلاء الذين يعتقدون بقدرات الدجالين على معرفة الغيب، أو حل مشكلاتهم، يوضح د. النجار: «الموقف الشرعي واضح في هذا الأمر كل الوضوح، ولا يحتمل التأويل، فالمسلم مطالب شرعاً بالاستعانة بالله وحده، بعد اتخاذ جميع الأسباب الموصلة إلى الأهداف المرجوة، فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يعلم الغيب، وهو وحده الذي بيده مقاليد كل شيء «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً»، وهو سبحانه قريب من عباده، وليس في حاجة إلى وساطة من أي نوع. ولذلك ننصح كل مسلم أن يلجأ إلى الله وحده، فهو قريب من كل عباده، وهو وحده القادر على إجابة دعوتهم، ومن هنا لا تجوز الاستعانة بغيره، والرسول صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى ذلك فيقول: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله». وبذلك يغلق رسولنا العظيم الباب تماماً في وجه أيّ إنسان يدّعي قدرته على علم الغيب، ويزعم أنه يستطيع أن يحل مشكلات الناس.
على الجميع أن يدرك أن الإسلام دين علم، يحترم العقل، ويساند كل ما يقرره العقل السليم، والإسلام في حقيقته ثورة على كل أشكال الدجل والشعوذة والخرافات التي تنتشر في بلاد المسلمين الآن، ويطالب علماء ودعاة الإسلام ببذل جهود أكبر في مواجهة هذه الخرافات، ومحاربة كل أشكال الدجل، كما يطالب وسائل الإعلام العربية بمواجهة جادة لهذه الخرافات، وتوضيح خطورتها على عقول الناس، فتلك الخطورة لا تقف عند الأموال الطائلة التي تنفق عليها أو تهدر فيها، بل خطورتها في إفسادها لعقل الإنسان وعقيدته».
من هنا يشدد د. النجار على ضرورة المواجهة الاجتماعية، والإعلامية، والأمنية الشاملة لكل أشكال الدجل، وتغييب العقول، وبيع الوهم للناس في البلاد العربية، تحت شعارات أو ستارات دينية «المجتمع الإسلامي بكل هيئاته ومؤسساته ووسائل إعلامه، مطالب برفض كل أعمال الدجل والشعوذة، والاعتقاد بالخرافات والأوهام، واللجوء إلى هؤلاء الذين يزعمون علم الغيب، من أجل طلب الشفاء، أو هلاك الأعداء، أو قضاء الحوائج، فكل هذه أمور لا يقبلها عقل، ولا دين».
الأزهر والفتاء يحذّران
المؤسسات الدينية الكبرى، وفي مقدمتها الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، يحذران من ادّعاءات ومزاعم المنجمين والدجالين، والتي تلقى قبولاً وتصديقاً من بعض الناس، حيث يبين مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية: «لقد اقتحمت خرافات ومزاعم المنجمين والدجالين كثيراً من البيوت عبر وسائل الإعلام المختلفة، التي تروّج لظاهرة التنجيم ومعرفة المستقبل، لاستقطاب أكبر عدد من المتابعين لبرامجها، ولزيادة أرباحها، بعيداً عن قانون الإيمان، وميزان القيم والأخلاق. والتنجيم يقوم على الكذب والدجل، وتأكيد الأوهام في النفوس، وليس له أي أساس علمي صحيح، ومهما استخدم المنجمون من وسائل التكنولوجيا الحديثة ليوهموا الناس أن القضية علمية، فلا يعدو ذلك أن يكون محاولة يائسة يكشف العلم الصحيح بطلانها وزيفها. فالتاريخ كذّب المنجمين، قديماً وحديثاً، في وقائع كثيرة، من أشهرها ما حدث للمعتصم الخليفة العباسي عندما أراد فتح عمورية فنصحه المنجمون بأن يؤجل الفتح إلى وقت آخر، فلم يسمع لهم وسار بجيشه فكان الفتح والنصر، مؤكداً أن المنجمين في العصر الحديث تنبأوا بأحداث من زلازل، وبراكين، وحروب، لم يشأ الله أن تكون؛ ليثبت قيوميته على خلقه، وليفضح كذب هؤلاء، وصدق من قال: (كذب المنجمون ولو صدقوا)».
الفلك... فارق كبير
ولكن هل التنبؤ عن طريق الفلك يدخل في نطاق التحذير؟ يقول د. محمد الضويني، وكيل الأزهر «التنبؤ بالظواهر الكونية عن طريق علم الفلك يختلف تماماً عن التنجيم، فعلم الفلك هام وضروري في منظور الإسلام؛ لأن الشهور تعتمد على حركة القمر، وأوقات الصلوات تعتمد على حركة الشمس، كما أن كل مسلم مطالب بالتفكّر في هذا الكون الهائل الذي نعيش فيه. وعلماء المسلمين اهتموا بدراسة الفلك، وكانوا أول من فرق بين علم الفلك والتنجيم الزائف، وترجموا الكتب اليونانية الفلكية، وغيرها من العلوم، واستفادوا منها في دراسة السماء، ودمجوا التقاليد الفلكية للهنود، والفرس، والشرق الأدنى القديم، بخاصة الإغريق منذ القرن الثامن، وما بعده. وحلقات العلم قديماً في الجامع الأزهر لم تكن تدور حول العلوم الشرعية واللغوية فحسب، بل شملت علوم الهيئة والفلك والرياضيات، ومن هنا يتأكد وجود فرق كبير بين علم الفلك والتنجيم، فقد أباح الله تعالى لعباده تعلم العلوم التي تنفعهم ولا تضرهم، وأباح لهم الاستفادة من الفلك والنجوم، ومعرفة أشكالها، وأسمائها، وأماكنها، بهدف الاستدلال على الطرق والجهات أثناء التنقل والسفر، وكذلك أجاز لهم حساب عدد الأيام والشهور والسنين، وتحديد مواعيد الفصول من خلالها، ومعرفة الأوقات التي يحتمل نزول المطر فيها، وغير ذلك من فوائد. وهذا يختلف عن التنجيم الذي يعبث بمخاوف الناس، ويتاجر بآمالهم، وإن ادعى أهله أنه علم، فهو علم زائف، قصارى ما يقدمه آراء لا تخضع لتجربة، ولا تثبت أمام قواعد العلم، فضلاً عما يحدثه من إفساد عقائد الناس وأفكارهم، حين يجعلهم يؤمنون بتأثيرات الكواكب والنجوم بعيداً عن الواحد الأحد».
اقرأ أيضاً: شاشات تروّج للدجل والشعوذة بحجة «فكّ السحر وجلب الحبيب»