أحاطت الشريعة الإسلامية عقد النكاح بسياج من الحماية باعتباره دستور بناء الأسرة، وعنيت شريعتنا الغراء بأدق تفاصيل أهم عقد في حياة الإنسان لضمان استقرار الحياة الزوجية على أفضل ما تكون العلاقة بين رجل وامرأة امتلأت روح كل منهما شوقاً لشريك حياته.
ولأهمية العلاقة الزوجية والحرص على استقرارها في بناء الأسرة جعلتها شريعة الإسلام «علاقة روحية» وليست مجرد علاقة جسدية، كما جعلتها علاقة أبدية لا تنتهي إلا بموت أحد طرفي تلك العلاقة إلا إذا تعذر استمرارها لعارض يجعل إنهاءها أفضل بكثير من استمرارها.
فكيف أحاطت الشريعة الإسلامية عقد النكاح بسياج من الحماية والضوابط اللازمة لضمان حقوق كل من الطرفين؟ وما هي الشروط الضامنة لتحقيق العدالة بين الزوجين؟ وما هي الشروط المقبولة والمرفوضة شرعاً في عقود الزواج؟
ما أهمية فترة الخطوبة؟
بداية، يؤكد د. عباس شومان، أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، أن شريعتنا الغراء اتخذت العديد من التدابير الشرعية للزواج تنطوي على جملة من الشروط التوافقية غير المذكورة نصا في وثيقته، فمن المعلوم أن شرعنا قدم على العقد ما يعرف بالخطبة، وإن لم تكن عقداً مستقلاً في ذاتها، ولا يترتب عليها أي إلزام لطرف من طرفيها، بل هي مقدمة وتمهيد لعقد الزواج، يدرس كل طرف خلال تلك الفترة شريكه المحتمل ليتأكد بنفسه من جملة شروط وضوابط يبحث عنها في شريكه، وكل طرف من الطرفين حر في وضع الضوابط التي يرغب في امتلاك الطرف الآخر لها ليقبله زوجاً.. وفي الخطبة يفصح كل طرف للآخر عن رؤيته لحياتهما المقبلة، وما يأمل أن يكون عليه الطرف الآخر، كموقف الرجل من عمل زوجة المستقبل، وصحبته سفراً وإقامة، والإقامة في بيت عائلته، أو عائلتها، وزيارة الأهل.. إلى آخر الأمور التي تعطي الشريعة متسعاً للاتفاق عليها بين الطرفين بما يحقق التوافق والرضا بينهما.
لو أحسن الناس استغلال ما شرعت له الخطبة، لقلت إلى حد كبير حالات الطلاق
ويوضح عالم الشريعة الإسلامية الأزهري أنه بقدر الصراحة والوضوح في مناقشة هذه الرغبات، وإفصاح كل طرف عن احتياجاته، تكون فرص نجاح الزواج واستقراره، ولو أحسن الناس استغلال ما شرعت له الخطبة من الوقوف على حال الآخر، لقلت إلى حد كبير حالات الطلاق، والإنهاء المبكر لعقد النكاح بسبب تعارض الرغبات والميول.
والاستغلال الأمثل لفترة الخطبة يغنينا عن جدل يثيره البعض في الآونة الأخيرة حول مدى مشروعية النص على شروط يشترطها كل طرف على الآخر في وثيقة الزواج، حيث يروج البعض لصيغ مقترحة لوثيقة الزواج محملة بقوائم شروط، بعضها من الزوجة وبعضها من الزوج، ويجعلون من الوفاء بها شرطا لاستمرار الحياة الزوجية.
المباح والمحظور من شروط عقد الزواج
ويوضح د. شومان أن عقد الزواج ليس عقداً مادياً كعقود المعاملات المالية المحملة بقائمة شروط يضعها كل طرف من أطرافه، فمقصود العقد إثبات مشروعية العلاقة بين الطرفين، وقبل هذا العقد كان لا يجوز لأحدهما أن يتعمد النظر إلى الآخر ما لم يكن لغرض مشروع كإرادة الخطبة، ويحرم مجرد اللمس لغير عذر شرعي كالتطبيب، ويعظم إن كانا تقاربا جنسياً حتى إنه يوجب عقوبة حدية.
وبالعقد تصبح هذه العلاقات مشروعة يثاب كل طرف عليها كلما فعلها، ومقصد الإسلام من تلك العلاقة أن تكون علاقة روحية قبل أن تكون علاقة جسدية، ولذلك يقول الحق سبحانه: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون»، وهذا الرباط المقدس لخطورته اعتبره وصفه القرآن بالميثاق الغليظ وهو تعبير قرآني يحمل كل المعاني السامية للعلاقة الزوجية: «وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً»، وهو لذاته يضمن تحقيق كثير من الأمور التي يشترطها بعضهم في العقود المقترحة كالإنفاق وحسن العشرة.
لذا فلا داعي لإفساد صورته الراقية بشروط توحي بعدم الثقة بين طرفيه.. ومع ذلك ففكرة اقتران عقد الزواج ببعض الشروط ليست مرفوضة، بل تناولها الفقهاء السابقون وقسموا هذه العقود إلى ثلاثة أقسام وبينوا حكم كل قسم منها:
وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على إبطال الشروط التي تنافي مقتضى العقد، واختلفوا في الشروط التي تحقق مصلحة لطرف، فإنهم اختلفوا أيضا في حكم العقد الذي اقترن بشرط باطل، حيث يرى الحنفية والحنابلة: بطلان الشرط وتصحيح العقد، ويرى المالكية: إبطال الشرط والعقد قبل الدخول، وإبطال الشرط وتصحيح العقد بعد الدخول، ويرى المالكية، والشافعية في قول: إبطال الشرط والعقد معاً قبل الدخول وبعده.. ومعظم الفقهاء يفتون بإبطال الشروط التي لا تلائم عقد الزواج مع تصحيح العقد قبل الدخول وبعده.
لكن د. شومان- وهو المشرف العام على مراكز ولجان الفتوى بالأزهر- يؤكد أن فكرة اقتران عقد النكاح بشروط ملائمة مقبول شرعا، وحتى الشروط التي تحقق مصلحة لطرف ولا تتنافى مع مقصود العقد مقبولة شرعاً، طالما قبلها الطرف الآخر.
زواج التجربة.. باطل
سألنا عالم الفتوى الأزهري: البعض يروج الآن لما يسمى «زواج التجربة» فهل يجوز الزواج لفترة محددة على سبيل التجربة والنص على ذلك في العقد، فلو حدث وفاق ومودة ورحمة بين الزوجين استمرت العلاقة الزوجية، ولو حدث غير ذلك ذهب كل منهما الى حال سبيله؟
أجاب «عقد الزواج في الإسلام (عقد مؤبد) لا يجوز أن يشترط فيه مدة محددة، وإنهاء هذا العقد في حالة فشل العلاقة الزوجية واستحالة العشرة أمر سهل عن طريق الطلاق، ولذلك فمثل هذا الزواج الذى يروج له البعض عبر مواقع التواصل الاجتماعي في بعض البلاد العربية» غير مقبول في شرعنا، بل امتهان لهذا العقد الراقي، والانحدار به إلى الصفقات المادية البحتة، فلا المرأة ولا الرجل سيارة أو جهاز إلكتروني يجربه من اشتراه فإن راق له احتفظ به وإلا رده، ولأن هذا إن أريد به تحديد مدة فهو زواج مؤقت باطل، وإن كان تعليق لاستمراره على شرط فهو كخيار الشرط، وعقد النكاح لا يقبله، وإذا كان إسلامنا قد أبطل النكاح المؤقت لمجرد اشتراطه حتى ولو كان لسنوات طويلة احتراماً لهذا الرباط الذي أريد له أن يكون مؤبداً، فإبطال هذه الأسماء المبتذلة أولى، فلينعقد عقد النكاح مؤبداً فإن تعرضت سفينته لعطب يصعب إصلاحه، فسبل الخلاص بالطلاق، وبالخلع، وبالتطليق أو الفسخ موجودة ومشروعة».
هل يجوز اشتراط عدم الزواج من أخرى؟
وعن مطالبة بعض الناشطات في مجال حقوق المرأة بوضع شرط في وثيقة الزواج يلزم الزوج بعدم الزواج من أخرى إلا بعد موافقة زوجته موافقة كتابية، يقول الفقيه الأزهري د. فتحي عثمان الفقي، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر وأستاذ الشريعة الإسلامية، «هذا شرط باطل، فمن حق الرجل أن يعدد زوجاته بإرادته الحرة المستقلة دون وصاية عليه، فالقرآن الكريم أباح التعدد وقيده بأربع، وهناك ضوابط لهذا التعدد أفاض العلماء في الحديث عنها، أهمها الخوف من العدل بين الزوجات.. أي أن العدل شرط للتعدد، والله سبحانه وتعالى يقول: «فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة».. القرار هنا يتخذه الرجل، وضميره هو الرقيب عليه..
أما أن نضع شرطاً في وثيقة الزواج يعطى الزوجة حق السماح لزوجها بالاقتران بزوجة ثانية فهذا يعني-عملياً- إبطال التعدد، حيث إن من طبيعة المرأة الغيرة، ورفض اقتران زوجها بأخرى.. والإسلام في كل تشريعاته واقعي ومتوازن، فعلينا أن نكون واقعيين وموضوعيين ولا نطلب المستحيل، ومن يقترحون مثل هذه الاقتراحات لا يعملون- في الواقع- لمصلحة المرأة كما يدعون، ولنفترض أننا وضعنا هذا الشرط ورغب زوج في الزواج من أخرى وذهب يستأذن زوجته ورفضت.. ما الموقف هنا؟ سيطلقها لكي يتزوج من التي يريدها، فما الذي استفادته هي من هذا الشرط الذي أدى الى طلاقها؟».
شروط صحة الزواج
من جانبه، يبين د. أسامه الحديدي، مدير مركز الأزهر للفتوى الالكترونية، أن الزواج في الإسلام آية من أعظم آيات الله سبحانه، «ومن أهم دعائم نجاح هذه المنظومة قيام عقد الزواج بين الرجل والمرأة على نية الديمومة والاستمرار، والتحمل الكامل لمسؤولياته كافة، وحماية هذا العقد من كل شرط لا يحقق مقاصده الحقيقية.. ولذلك حدد الفقهاء الشروط الأساسية لعقد الزواج في:
ويوضح د. الحديدي أن الشروط في عقود الزواج أنواع منها:
ما الحكم لو اشترطت المرأة على زوجها عدم تطليقها في المستقبل؟
يجيب د. الحديدي «هذا الشرط من جملة الشروط الباطلة، فقد أعطى الشرع الزوج والزوجة حق حل عقد الزواج إن وجد سبب معتبر يدعو إليه، ويوقع الضرر على أحد طرفيه، وإن اشترط الزوج على نفسه عدم طلاق زوجته مدة من الزمان ثم طلقها في المدة، كان الطلاق صحيحاً شرعاً، وكذا الزوجة إن طلبت طلاق نفسها، أو رفعت أمرها للقاضي فطلقت قبل انتهاء المدة المشترطة. ومما يوجب فساد العقد ويخالف الشرع أن يشترط البدل، فيقول: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، أو زوجتك أختي على أن تزوجني بنتك أو أختك، فهذا نكاح البدل والشغار، وهو نكاح فاسد».
وعن شرط إسقاط النفقة على الزوجة ومبيت الزوج في منزل الزوجية وهو ما يحدث فيما يسمى بـ «زواج المسيار»، يؤكد مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية «أن نفقة الزوجة واجبة على الزوج، لكن لو تنازلت عنها بمحض إرادتها مقابل عدم المبيت في منزل الزوجية لاحتياج أولادها من زوج سابق للرعاية يجوز ذلك طالما تراضى الطرفين على هذا، ومثل هذه الشروط لا تخل بعقد الزواج طالما تم وفق شروطه وضوابطه الشرعية».
إقرأ أيضاً:
- التهديد المستمر بالطلاق قصداً أو مزحاً.. سلوك محرم شرعاً
- ماذا تعني القوامة؟ هل هو "سي السيد"؟.. الإجابة عند د. فتحية الحنفي أستاذة الشريعة الإسلامية