يعدّ أحد أبرز روّاد الخط العربي في الدولة، جمع بين الأصالة والتجديد في مسيرته الفنية الممتدة لعقود. تتلمذ على يد كبار الخطاطين في مصر وتركيا، وخلّد اسمه عبر بصمات لا تُنسى في مشاريع وطنية كبرى، من بينها تصميم العملة الإماراتية، وجواز السفر، وخط وزخرفة محراب جامع الشيخ زايد الكبير.
هو الفنان التشكيلي والخطاط الإماراتي محمد مندي، رئيس وحدة بيت الخط العربي للتعليم والتوعية، التابع للمجمع الثقافي بأبوظبي، والذي يؤمن بأن الحرف العربي ليس مجرّد خطوط مرسومة، بل روحٌ تنبض بالجمال والانتماء، ورسالة تُحمل من جيل إلى آخر.
كيف كانت بدايتك مع مشروع تصميم العملة الإماراتية؟
أتذكر أن البداية كانت مع فئة المئتي درهم، عندما تواصلت معي الشركة المسؤولة في سويسرا، لإنجاز المهمة، وطلبت مني كتابة حروف العملة، وقبل أن أبدأ، سألوني: كم تريد مقابل هذا العمل؟ فقلت لهم: أنتم قرروا المبلغ المناسب، فقالوا: مئتا درهم، فقلت لهم: وإذا صممت خمسة دراهم، كم ستدفعون؟ وضحكنا جميعاً، ثم قلت لهم إنني لا أريد المال، لأن العمل في حد ذاته فخر لي، واعتبره خدمة لوطني، قبل أي شيء آخر، ويكفيني أن من يسألني: «أين أعمالك؟»، أجيب: «أعمالي في جيبك»، في إشارة إلى أن خطي يظهر على العملة التي يحملها الناس يومياً، وتسكن جيوبهم. وأتذكر أنني قمت بكتابة أربعة أنواع من الخطوط العربية: النسخ، الديواني، الثلث، والكوفي الفاطمي، وعندما سألتني الشركة عن اقتراحي لنوع الخط، رشحت الأخير وتم نقل اقتراحي إلى المصرف المركزي، الذي اعتمد الخط الكوفي الفاطمي ليكون العنصر المميز في العملة الإماراتية، لما يحمله من عمق في التعبير عن الهوية العربية والإسلامية.
هل اقتصرت أعمالك على العملة الإماراتية فقط؟
لا، بعد تجربة العملة الإماراتية طُلب مني تصميم عملات أخرى في دول عدّة، وكانت فرحتي كبيرة أن أرى أعمالي في أكثر من دولة، وأن أقول بثقة عندما أسافر: هذه من أعمالي.
70 %من فني للوطن و30% لي شخصياً، وعندما أرى أعمالي بين أيدي الناس يومياً أشعر بفخر كبير
من خلال عملك على تصميم العملة الوطنية وجواز السفر الإماراتي، هل لك أن تصف لنا كيف كان وقع هذه التجربة عليك؟
أعتبرها واحدة من أجمل وأهم التجارب في حياتي، فالفنان المحب لعمله وهوايته يسعى دائماً إلى الارتقاء بهما، وبالنسبة لي، كانت التجربة مزيجاً من الشغف والانتماء، حيث إن 70% من هذا العمل كان للوطن، و30% لي شخصياً، فعندما أرى أعمالي بين أيدي الناس يومياً، في العملة أو في جواز السفر، أشعر بفخر كبير، لأنها أصبحت جزءاً من حياتهم اليومية.
ما المعايير الجمالية والفنية التي تراعيها عند تصميم عملة وطنية أو وثيقة رسمية تمثل دولة؟ وكيف تجري عملية اعتماد التصاميم عادة؟
أول ما أفعله هو البحث عن التميّز، بخاصة في منطقة الخليج، لأنني أحب أن تكون أعمالي مختلفة عن أيّ تصاميم أخرى، فأنا أتعامل مع العملة الورقية كأنها لوحة فنية متكاملة، وليست مجرّد عمل رسمي، أو وثيقة جامدة. فالورقة النقدية، في رأيي، تحتوي على عناصر الفن كلها: الصورة، المنظر، التكوين، والخط، لذلك أحرص على أن يكون لكل تفصيل فيها روح وجمال. أما في ما يتعلق بالشق الثاني من السؤال، فعادة أقدّم ثلاثة نماذج مختلفة، وأشرح وجهة نظري حول الأفضل منها، وبعد دراسة اللجنة للتصاميم، في الأغلب يقع الاختيار على النموذج الذي أرشحه، وهذا ما حدث في تصميم ثلاث فئات من العملة الإماراتية.
حدثنا عن تجربتك في خط وزخرفة محراب جامع الشيخ زايد الكبير، وأبرز التحديات التي واجهتك في تنفيذ هذا المشروع الضخم، الذي يجمع بين الروحانية والفن؟
نعود بالزمن قليلاً إلى بدايات تنفيذ المشروع، في فترة كان يتولى فيها الإشراف على المسجد، المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، طيّب الله ثراه، رئيس دائرة الأشغال العامة في أبوظبي، آنذاك، وتوجهت إليه وقدّمت فكرة العمل، والخطة الفنية الخاصة بالخط والزخرفة، ومنحني رسالة كتب فيها: «لدينا نية في تكليف الفنان محمد مندي بأن يقوم بكتابة خطوط المسجد كاملًا»، وكانت تلك بالنسبة لي فرحة كبيرة، لأن كتابة خطوط مسجد الشيخ زايد شرف لا يتكرر في العمر. فمنذ اللحظة الأولى، كنت مدركاً أننا أمام مشروع استثنائي لا يشبه غيره، فهو ليس مجرّد بناء ضخم، بل صرح ديني وفني يمثل دولة بأكملها، لذلك حرصت على أن تكون كل تفصيلة في الخطوط والزخارف على أعلى مستوى من الدقة والجمال، لتعكس روح المكان وعظمته. وبعد فترة توقّف العمل في المشروع لبعض الوقت، ثم حين تحدّد موعد افتتاح المسجد، أصبحت الأمور تسير بوتيرة سريعة، وبدأت الشركة الإيطالية المنفذة تبحث عن خطاطين، إلى أن عثروا على رسالتي القديمة، فاستدعوني، وخيّروني بين أجزاء في المسجد أتولى كتابة الخط فيها، واخترت المحراب.
كيف ولدت فكرة تصميم المحراب؟
عندما اخترت هذا الجزء للعمل فيه، قيل لي: أمامك ثلاثة أيام لتقدم تصورك للمحراب، وفي تلك الليلة، قلت لزوجتي: «لن أنام، لابد أن أخرج بفكرة»، وفي اليوم التالي أنجزت النموذج الأول، ثم المسودة، وذهبت بها إلى القائمين على المشروع، وفوجئوا، وقال لي أحد المسؤولين: «أمس فقط اتفقنا أن نمنحك ثلاثة أيام، كيف أنهيت العمل؟»، فقلت له: «حلمت بالفكرة الليلة، ونفذتها كما رأيتها»، وظللت أعمل على هذا المشروع لمدة ستة أشهر متواصلة، كانت مملوءة بالتحدّيات، والدقة، والجهد، لكنها في الوقت نفسه كانت من أجمل مراحل حياتي، فكل يوم كنت أشعر بأنني أعيش حالة روحانية وفنية نادرة، وأن الحروف التي أخطها ليست مجرّد كتابة، بل جزء من روح المسجد.
وأين كانت محطتك التي تلت هذا الإنجاز الكبير؟
بعد أن أنهيت عملي في جامع الشيخ زايد الكبير، توليت الإشراف على الكتابات والزخارف في مسجد الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، بمدينة العين، ذي التصميم المميز بمآذنه الأربع، والذي يعكس روح العمارة الإسلامية، وتراثها الفني الفريد، ودلالته الرمزية لثقافة الدولة وموروثاتها الحضارية، وكانت تجربة جديدة ومميزة أيضاً، بلا شك.
كيف تنظر اليوم إلى هذه التجارب الفنية؟
أراها جزءاً من رحلتي في حب الخط والفن، فكل ورقة نقدية، أو وثيقة رسمية تحمل توقيعي، مثل جواز السفر الإماراتي، أو الكويتي، أو القطري، أعتبرها شهادة فنية ووطنية في الوقت نفسه، لأنها تمثل بلداً بأكمله أمام العالم. وصحيح أنني صممت العديد من الشعارات والأعمال الفنية، لكن محراب جامع الشيخ زايد الكبير له مكانة خاصة، فهو الذي استحوذ على كل مشاعري، ولا يزال الأقرب إلى قلبي، يليه بالتأكيد مسجد الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، ثم لوحة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، التي رسمتها عام 1991، والتي أحتفظ بصورتها حتى اليوم.
حدثنا عن تلك اللوحة والظروف التي لحقت بها؟
حوّلت صورة فوتوغرافية لمؤسس الدولة إلى لوحة فنية بديعة، إذ أنهيت العمل بها في ليلة عيد الأضحى المبارك، والتقطت لها صورة ووضعتها في جيبي، وخرجت لأشتري ملابس العيد، وأثناء خروجي من أحد المحال التجارية، فوجئت بأن الشيخ زايد متواجد في المكان، لم أصدق نفسي، وقفت في مكاني، وأنا أحمل صورة اللوحة التي انتهيت منها لتوي، وأدركت وقتها أن أمنيتي تحققت، بخاصة أنه كان يحرص على لقاء الناس في الأعياد والمناسبات المختلفة، وإذا به أمامي، وعرضت عليه صورة اللوحة التي رسمتها له بالقلم الرصاص، وكتبت اسمه داخل تفاصيلها حتى اكتمل الشكل، وكانت تلك طريقتي في التعبير عن محبتي وتقديري له، وعندما رآها قال لي بإعجاب: «أنت من رسمها؟»، قلت «نعم» رد قائلاً: «بارك الله فيك، يجب أن أراك شخصياً»، وذهبت إلى القصر وشرحت له فكرة العمل، وقلت له: «طال عمرك، أنت فنان. فسألني كيف ذلك؟ فقلت له: لأنك حين تمسك العصا وتشير إلى الأرض قائلاً: أريد هنا شجرة، وهنا وردة، وهناك خزان ماء، فأنت في الحقيقة ترسم لوحة فنية حية، وما تفعله يحوّل الصحراء إلى مشهد نابض بالحياة، تماماً كما نحوّل، نحن الرسامين، الورق الأبيض إلى لوحة بالألوان.
كيف أثّر تتلمذك على يد الخطاطين بمصر وتركيا في أسلوبك الفني ومسارك المهني؟
دراستي في القاهرة كانت محطة هامة في حياتي. سافرت إلى مصر عام 1975، لدراسة الخط العربي والتحقت بمدرسة تحسين الخطوط العربية، وذهبت وأنا أحمل في يدي قائمة بأسماء الأساتذة، لم أكن أعرفهم شخصياً، كنت أسمع عنهم فقط، وأكتب أسماءهم، ومن بينهم الخطاط سيد إبراهيم. في البداية كان خطي بسيطاً، يحتاج إلى صقل، وإلى قواعد، لكنني كنت مصمماً على التعلم، وتتلمذت على يد الفنان الخطاط سيد إبراهيم، رحمه الله، الذي علّمني أسرار الحرف العربي، وما يتمتع به من روح تنبض بالجمال والانتماء، وكانت تلك البداية الحقيقية لتكويني الفني، وأتذكر كم كنت استمتع بالجلوس معه وهو يستعيد الذكريات، متصفحاً ألبوم صوره مع شعراء، أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم ناجي، وغيرهم، وهنا أدركت القامة الكبيرة التي كانت غائبة عني، وهي أنه كان شاعراً، وليس معلماً في مدرسة الخط العربي فقط. أما في تركيا، فقد كان هناك الخطاط التركي حسن جلبي، رحمه الله، الذي يُعد من كبار الخطاطين المعاصرين المبدعين في تركيا، والعالم العربي كله.
هل شعرت يوما بالندم على اختيارك مسار الفن لتكمل به مسيرتك العملية؟
لا، بالعكس، فقد اخترت الفن، ودائماً ما كنت أشعر بأنه حياتي، ونفسي، وروحي، فمنذ طفولتي كنت أستمتع بمشاهدة الشروق والغروب، والبحر، والزهور، والأحياء الشعبية، وكل ذلك كان يغذي إحساسي بالجمال، وكنت أعمل نهاراً، وأتدّرب على الخط ليلاً، حتى أصبح جزءاً من كياني يصعب الانفصال عنه، وباتت أقلامي التي تجاوز عددها الخمسة آلاف، هي رفيقة دربي، ليلاً ونهاراً.
ما مدى انفتاحك على المدارس الحديثة في الخط العربي، وهل ترى أن التجديد يمكن أن يتوافق مع الأصالة؟
تعلمنا جميعاً الخط، ولكن القليل منا من يفكر في كيف وُجد الخط أصلاً، وكيف وُضعت قواعد الكتابة ووصلت إلينا بهذا الشكل، وكيف حافظت جميع الحروف على الانسجام ذاته، والروح نفسها، رغم اختلاف المدارس والأساليب، وهذا يدل على أن من أسسوا الخط العربي تركوا إرثاً متيناً يشبه القوانين التي تنظم حياة الناس في المجتمع. أما عن المدارس الحديثة فتكمن مشكلتها في غياب العمق والتفكير، فظهور الكمبيوتر والمدارس الحديثة جعل البعض ينسى أن الخط ليس مجرّد كتابة جميلة، ولا مصدراً لكسب المال، بل هو التزام بقواعد وروح متوارثة، من دونها يفقد الخط العربي هويته، وجماله الحقيقي.
بصفتك رئيس وحدة بيت الخط العربي للتعليم والتوعية بأبوظبي، ما الدور الذي تقدمونه لدعم الفن والتشكيل؟
تخرّج على يدي أكثر من 15 خطاطاً، فهدفنا هو نقل أصول هذا الفن، بروحه وقواعده، إلى الأجيال الجديدة، إذ نعلّم طلابنا قواعد الكتابة الصحيحة، من النقاط، والمسافات، وأصول الحرف، حيث يقدم المركز نوعين من البرامج: ورشة عمل قصيرة، ودورات شهرية تضم أربع حصص أسبوعية، ولدينا مشروع جديد قيد الدراسة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، يهدف إلى إدخال الخط العربي للمدارس، وتعريف الجيل الجديد به، لنعيد هذا الفن إلى الواجهة، ليعتز أبناؤنا بلغتهم، وجمال حروفها.
ما المشروع أو الفكرة التي تطمح إلى تنفيذها في المرحلة المقبلة لتعزيز حضور الخط العربي؟
لديّ أولا أمنية أتمنى أن تتحقق، وهي أن يوفقني الله سبحانه وتعالى في بناء مسجد من مالي الخاص، يجمع بين أعمالي، وما تركه أساتذتي من فن تخليداً لذكراهم، كما أطمح إلى إنشاء مدرسة لتعليم الخط والزخرفة، يكون لها صدى على مستوى الشرق الأوسط كله.
* تصوير: محمد السماني
