02 أكتوبر 2025

أول امرأة أدارت ورشة «كارتييه»... جان توسان روّضت النمر وجعلت منه حلية تزيّن المشاهير

كاتبة صحافية

مجلة كل الأسرة

تعرف أنيقات العالم تلك الحلية التي تستعير رشاقة النمر، وتصوغه من الذهب وترصّعه بالأحجار الكريمة. هي ليست حلية جديدة، بل نراها تتجدّد في كل موسم من مواسم المجوهرات الراقية، لاسيما لدى دار «كارتييه» الباريسية العريقة. وفي هذه الدار، كانت هناك، قبل نصف قرن، سيدة تدعى جان توسان، اشتهرت بأنها جعلت من النمر بمثابة توقيع لاسمها.

وتوسان، كانت أول امرأة تتولى إدارة ورشة للصياغة بهذا المستوى، مرّت من تحت يديها مجوهرات ولآلئ وأحجار ألماس، وزمرد، وياقوت، تصل أسعارها إلى الملايين. كما أنها أول من استلهم شكل النمر، وجعل منه رمزاً للأناقة النسائية. وبفضل موهبتها فإنها تبقى إيقونة دار «كارتييه» حتى بعد مرور 50 عاماً على رحيلها.

مجلة كل الأسرة

اقتحمت مهنة سيطر عليها الرجال

توصف جان توسان بأنها من الرائدات اللواتي سبقن عصرهن. فقد تألقت في مهنة كانت، حتى ذلك الوقت، محتكرة من الرجال. ولدت في مدينة شارلروا البلجيكية عام 1887، ويبدو أنها تمكنت من الخروج من محيطها العائلي المتواضع، حيث لا نملك الكثير من المعلومات عن طفولتها، لكي تبرز وسط كبار «الصنايعية» لدى دور الصياغة الأشهر في العالم.

وصلت الشابة إلى العاصمة الفرنسية وهي في السادسة عشرة من عمرها، لتجد نفسها وسط أجواء باريس في فترة الازدهار المسماة «لا بيل إيبوك»، أي الحقبة الجميلة. كانت المدينة تعيش أجواء ما قبل الحرب الأولى، وما يحيطها من استقرار ورخاء. عاصرت الحفلات، والبذخ، والحياة الفنية الخلّاقة، كما أتيح لها أن تصبح، لفترة مبكرة من عمرها، ملهمة لعدد من الفنانين البارزين، أمثال بول سيزار هالو، وأدولف دو ماير. غير أن اللقاء الذي خدمها وأدار دفة حياتها كان في عام 1914، حين تعرّفت في مطعم «مكسيم» إلى لويس كارتييه، حفيد مؤسس الدار الشهيرة.

مجلة كل الأسرة

وعلى الرغم من أن علاقة الحب بينهما اصطدمت برفض عائلة لويس، التي نظرت إليها على أنها مجرّد «نزوة»، أو مغامرة عابرة، لكنها لا تصلح زوجة لسليل الأغنياء، إلا أنه بقي مقتنعاً بموهبتها. لذلك فتح أمامها أبواب دار «كارتييه» عام 1920، حيث بدأت بتصميم الحقائب. وبعد أربع سنوات فقط، كُلّفت بإدارة قسم جديد مخصص للفضة (S comme Silver)، يقدم إكسسوارات عملية، وأكثر رواجاً، مثل علب التجميل، ولوازم الاحتفاظ بالسجائر والولاعات. وفي تلك المرحلة بالتحديد، راحت جان توسان تكرّس نفسها شيئاً فشيئاً لفن تصميم المجوهرات، الذي سيصنع لاحقاً اسمها الكبير.

لكن التتويج الحقيقي جاءها في عام 1933، عند تعيينها مديرة فنية للعلامة التجارية الشهيرة لتكون أول امرأة في مجالها تصل إلى تلك المرتبة الرفيعة من المسؤولية. وفي تلك الفترة، كتب لويس كارتييه رسالة إلى شقيقه قال فيها إن جان توسان تتمتع بالكثير من الذوق. وبفضل موهبتها وحسن إدارتها، فإنها بقيت في الدار حتى عام 1970، ولم تغادر إلا بعد بلوغها من العمر 83 عاماً.

مجلة كل الأسرة

قصة تسمية أنثى النمر

بين جان توسان و«البانتير»، أنثى النمر، قصة عشق طويلة. فقد لقبت هي ذاتها بهذا الاسم، بسبب ما جمعته في شخصيتها من جاذبية حسية، وذكاء نافذ، وإصرار عنيد. وهي لم تُخفِ يوماً شغفها بهذا الحيوان الذي بات رمزاً للمرأة المتحرّرة في تلك الحقبة، أي التي تجمع الأنوثة والاستقلالية والفتنة، إضافة إلى سحر لا يقاوم.

مجلة كل الأسرة

ظهر «البانتير» لأول مرة في تصميم ساعة مرصعة بأحجار الأونيكس والألماس، تحاكي فراءه المرقط. لكن حضوره الفعلي بدأ عام 1917 على علبة أنيقة أهداها لويس كارتييه نفسه إلى حبيبته جان توسان. وبعد عامين فقط، طلبت منه علبة جديدة من الذهب والمينا الأسود الصيني، وقد طُبع عليها من جديد شكل النمرة التي أصبح توقيعها الخاص. وفي الأربعينيات، وبالتعاون مع الرسام بيير لامارشان، أبدعت توسان ملامح جديدة لرمزها المفضل، مانحة إياه هيئة ثلاثية الأبعاد: قوية، شامخة، واثقة.

الملك إدوارد الثامن الذي ترك العرش ليتزوج واليس
الملك إدوارد الثامن الذي ترك العرش ليتزوج واليس

ومع تلك الهوية الجريئة، وجدت أنثى النمر صدى لدى نساء يشبهنها: مستقلات، جريئات، بل ومتمرّدات على الأعراف. ولعل أشهرهنّ السيدة الأمريكية واليس سمبسون، دوقة وندسور، التي نبذها المجتمع البريطاني، لأن ملك بريطانيا تنازل عن العرش، عام 1936، لكي يتمكن من الزواج منها. فقد كانت متزوجة ومطلقة مرتين، في حين أن تقاليد آل وندسور تمنع أفراد العائلة المالكة من الزواج من مطلقين، أو مطلقات. ففي عام 1948، وبطلب من دوق وندسور، تلقت واليس سمبسون هدية من زوجها الملك السابق دبوساً للصدر استثنائياً في الروعة، تجثم فيه النمرة على زمردة نادرة بوزن يفوق وزنها 116 قيراطاً. وبعد عام، عاد الزوجان ليقتنيا بروشاً آخر، مرصّعاً هذه المرة بياقوت كشميري نادر بوزن 152 قيراطاً.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

صاغت جان توسان إيقونات خالدة من البلاتين، والذهب الأبيض، والألماس، والأحجار الكريمة. وصارت تلك القطع أكثر من مجرّد مجوهرات. إنها بصمات ثقافية. وسرعان ما اصطفت نساء النخبة عند أبواب «كارتييه» طلباً لإبداعها المتفرد، ومن بينهن الممثلة جاكلين دولوباك التي تزيّنت بسحلية على عنقها، والكاتبة ديزي فيلوز التي ارتدت عقداً هندوسياً باذخاً، وصولاً إلى المغنية المكسيكية ماريا فيليكس التي يقال إنها جاءت إلى متجر «كارتييه» في شارع «دو لا بي» في باريس، وهي تحمل بين يديها تمساحاً صغيراً ليكون النموذج الحي لمجوهراتها الشهيرة.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

اليوم، يقول بيير رينيرو، مدير السمعة التاريخية لدى «كارتييه»، إن أيّ مصمم، باستثناء الأسطورة الخالدة جان توسان، لم يصل إلى مكانتها من الإبداع، سواء لدى هذه الدار أو لدى غيرها من الصاغة خلال القرن العشرين قاطبة. وإن أياً من الحلي لم تمتلك ذلك الإيحاء الدال على المرأة المعاصرة مثل المجوهرات التي صممتها توسان. لقد كانت امرأة لا تشبه غيرها من النساء.