27 أبريل 2025

قبل 120 عاماً ولد المصمم في حضن هذه الخضرة.. حدائق «ديور» الساحرة تفتح بواباتها للزوار

كاتبة صحافية

منزل ديور ومتحفه
منزل ديور ومتحفه

إذا كنت سائحاً في فرنسا هذا الصيف، فإن من الجميل أن تأخذ لك يومين لزيارة منطقة النورماندي، (ساعة ونصف الساعة بالسيارة عن باريس)، حيث يمكنك أن تزور معرضاً في الهواء الطلق، يملأ عينيك جمالاً وبهجة. إنها حدائق كريستيان ديور الساحرة التي فتحت أبوابها مرة جديدة للزوار، بعد عقود من رحيل هذا المصمم الفرنسي الشهير الذي أحدث ثورة في عالم الأزياء النسائية.

ملصق معرض الحدائق الساحرة
ملصق معرض الحدائق الساحرة

كتاب مصور يعبق بالروائح

تحيط هذه الحدائق الغنّاء بمنزل ذي لون ورديّ يقع في بلدة «جرانفيل»، وهي البلدة التي ولد فيها ديور وعاش طفولته في هذا المنزل الذي يحمل اسم فيلا «ليه رومبس Les Rhumbs». وفي عام 1997، تم تحويل المكان إلى متحف تديره جمعية متخصصة في إحياء ذكرى هذا المصمم الذي كان يحب أن يقدم نفسه أنه خيّاط وعطّار. ومنذ افتتاحه، نظمت جمعية «حضور كريستيان ديور» معارض مختلفة، تسلط الضوء على إبداعاته، وإبداعات خلفائه. وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً على معرض كان مخصصاً لحدائق المنزل، عام 2001، عادت الحدائق مرة أخرى إلى دائرة الضوء. لقد كانت عنصراً أساسياً في حياة صاحب المكان، ومصدراً رئيسياً للتأثير في موهبته، في كل من الموضة والعطور.

يتولى المديرون الفنيون لدار ديور، اليوم، إدارة هذه الحدائق، والإشراف عليها، وعلى خضرتها، وأشجارها، وأزاهيرهان وهم: ماريا جراتسيا كيوري، المديرة الفنية لمجموعات النساء، وكيم جونز، المدير الفني لمجموعات الرجال، وفرانسيس كوركدجيان، مدير قسم العطور، إضافة إلى مبتكري الإكسسوارات، والمجوهرات، وأدوات المائدة، وهدفهم تقديم المكان كحضن للموهبة، والأناقة، والخيال. وبعد مرور 120 عاماً على ولادة كريستيان ديور، في «جرانفيل»، فإن من المثير الاستمرار في قراءة حديقة طفولته من خلال منظور إبداعاته، وإبداعات خلفائه. إن النزهة هنا قراءة حقيقية، كأنك تقلّب أوراق كتاب مصور يحكي تاريخاً يعبق بالروائح. وبفضل القروض السخية من الدار، والمتبرعين من القطاعين، العام والخاص، بات من الممكن إتاحة فرصة ممتازة للاحتفال بمبدع وصف نفسه بأنه صانع عطور ومصمم أزياء، على حد سواء.

مجلة كل الأسرة

حديقة «جرانفيل».. الحديقة الأولى لكريستيان ديور

كانت الحديقة الأولى التي تركت أثرها في كريستيان ديور هي حديقة «جرانفيل». هنا سار خطواته الأولى، وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً في ذهنه بوالدته، مادلين، التي اهتمت بشكل خاص بتخطيط الفيلا، وأضافت حديقة شتوية إليها، ما سمح لها بالاستمتاع بحبها للنباتات على مدار العام. وقد ساعدها ابنها الذي قام بتصميم بركة الأسماك المحيطة بالشرفة الخارجية المسقوفة، وكذلك ترك بصماته الفنية، وذوقه الرفيع على الأثاث.

مصنع عطور بدل أسمدة
مصنع عطور بدل أسمدة

هذا من حيث تأثير الأم، ومن ناحية أخرى شعر الابن، في طفولته، بالنفور من العالم الصناعي الذي يجسده والده الذي كان يدير مصانع للأسمدة، مع ابن عمه لوسيان. ومما يذكر أن المنشورات الدعائية عن تلك المصانع كانت تقول: «سماد ديور من الذهب». ولعل الولد الصغير حاول، فيما بعد، أن يكون عطّاراً، لكي يحرر أنفه من الرائحة المنفرة التي كانت تنبعث من مصنع العائلة. والغريب أن الأب رفض أن يستخدم الابن لقب العائلة حين أراد افتتاح صالة للعرض الفني، كأن اسم «ديور» لا يصلح لغير الأسمدة.

رائحة الورد البلدي في كل مكان
رائحة الورد البلدي في كل مكان

روائح النساء.. والسنوات المجنونة

ثم سارت الأمور بشكل سيئ. فقد مرض أحد أشقاء ديور، وداهمت الوالدة حالة من الحزن، كما أصيب الأب بالكآبة، وتعرّض للخسارة. واضطرت الأسرة إلى بيع المنزل الوردي الذي اشترته البلدية، والذي أصبح فيما بعد متحفاً للمصمم الذي طارت شهرته إلى مختلف البلاد، وأصبحت أزياؤه من مصادر الدخل القومي لفرنسا. وعندما قررت عائلة ديور الاستقرار في العاصمة عام 1911، وجد الشاب نفسه مسكوناً برائحة النساء، مثل رائحة الماركيزة الغريبة التي كانت تتردّد على قصر والديه في باريس، وكذلك الشذا الذي كان يرافق النساء الأنيقات، من صديقات والدته، أو تلك الرائحة التي كان يهجسها، وتفوح من صور الجميلات اللواتي ظهرن في لوحات الرسامين جيوفاني بولديني، وأنتونيو دي لا جاندارا، وهنري كارو ديلفيل. ألم تبدأ حواس مصمم الأزياء المستقبلي بالاستيقاظ في حديقة «جرانفيل» حيث امتزجت روائح الزهور، ورائحة رذاذ البحر المالح؟

ديور يستقبل الأميرة مرجريت شقيقة ملكة بريطانيا
ديور يستقبل الأميرة مرجريت شقيقة ملكة بريطانيا

ومن المصادفات أن عرّافة قرأت له طالعه وهو في أول الصبا، وتنبأت بأن نجاحه في الحياة سيكون مرتبطاً بالنساء، في إشارة إلى السنوات الأولى من حياته. وتخيّل تلاميذه وخلفاؤه نماذج مستوحاة من الزمن الجميل، ذاك الذي يحتفظ الشاب كريستيان منه بصورة قال في وصفها إنها «العصر السعيد والهادئ، حيث كل شيء يتم من أجل متعة الحياة فقط». لقد أراد له والده أن يدخل السلك الدبلوماسي بدل معهد الفنون الجميلة ولذلك سُجل الشاب في المدرسة الحرة للعلوم السياسية، لكنه غادرها عام 1926 قبل الحصول على الشهادة. لكن وجوده في تلك المدرسة أتاح له أن يعقد صداقات مع فناني ذلك العصر الذي حمل فيما بعد تسمية «السنوات المجنونة».

يضع اللمسات الأخيرة بنفسه
يضع اللمسات الأخيرة بنفسه

عطور مسيو ديور

يرتبط عالم عطور ديور ارتباطاً وثيقاً بالحديقة، وروائحها، كما يرتبط أيضاً بعالم الأزياء الراقية. إن شغف شيخ مصممي فرنسا بالحدائق، واتصاله بشواطئ جنوب البلاد، وصداقاته الوطيدة هناك، جعلته متميّزاً عن غيره من مصممي العطور. وتعتمد مسيرته في دنيا الروائح، أو مغامرته كعطار، على 4 عطور شهيرة، تحولت إلى رموز لدى أنيقات العالم، وهي Miss Dior عام 1947، وDiorama في العام التالي، وEau de Cologne Fraîche عام 1955، وDiorissimo عام 1956.

مجلة كل الأسرة

ولد عطر Miss Dior على يد بول فاشر، وهو في المقام الأول قصة عائلية، وودية، تجمع بين سيرج هيفتلر لويش، صديق أصحاب «جرانفيل»، والرئيس المؤسس لشركة العطور الخاصة بالدار، وكاثرين ديور، شقيقة كريستيان ديور، الحبيبة وملهمته. فمن المعروف أن هناك أشخاصاً يمتهنون مهنة تسمى «الأنف»، وهم يتمتعون بحساسية غير عادية لتمييز الروائح، والاحتفاظ بها في ذاكرتهم. وعادة ما يشتغل هؤلاء مع كبار المصممين، ويلبّون طلباتهم، ويمتثلون لتوجيهاتهم. إن عطر Diorissimo الذي ابتكره إدموند رودنيتسكا في عام 1956، يرتبط باللون الوردي لفيلا Les Rhumbs، ويشير إلى ذكريات طفولة كريستيان ديور. أما Eau de Cologne Fraîche، فهو يحيي روح بحر المانش الذي تطلّ عليه منطقة «النورماندي» التي يصطاف فيها ديور، مع عائلته كل صيف في «جرينفيل». وأخيراً، عطر ديوراما الذي ابتكره إدموند رودنيتسكا أيضاً عام 1949 لحساب دار كريستيان ديور، وهو يستحضر صور العروض السينمائية الأولى في أوائل القرن العشرين. وكانت قارورة العطر تحيل إلى تلك الذكريات، فالشكل المجسم مستوحى من جهاز العرض الموجود في متحف التاريخ الطبيعي، منذ القرن التاسع عشر، وأصبح بطبيعة الحال واجهة لعرض الإكسسوارات، والمجوهرات، والزجاجات، والأحذية، وحتى أدوات المائدة ذات الإشارات النباتية، والبستانية.

الورد جعله عطاراً
الورد جعله عطاراً

الحديقة السرية للمبدعين

تحت السقف، في الطابق العلوي للفيلا، وهو المخبأ المفضل لكريستيان ديور عندما كان طفلاً، يجري تكريم المديرين الفنيين الحاليين لدار ديور، حيث يقوم كل شخص بزراعة حديقته المعنوية بطريقته الخاصة، ويدمج الطبيعة في إبداعاته وتصاميمه. وتقول ماريا جراتسيا كيوري، المديرة الفنية للمجموعات النسائية، إنهم حين يشتغلون في هذا المكان فإن روح المصمم المعلم ترفرف فوق رؤوسهم، وترشد ابتكاراتهم.

فمن المعروف أن ديور الذي فارق الحياة عام 1957، أي بعد 10 سنوات على ظهور علامته التجارية، كان معلماً لجيل من صغار المصممين، أبرزهم إيف سان لوران، الذي أصبح يضاهي في شهرته شهرة معلّمه.

وما دمنا في سياحة في «النورماندي»، فإن من غير المعقول مغادرة المنطقة من دون زيارة متحف آخر شهير رائع، يقع في بلدة «جيفرني»، وهو متحف الرسامين الانطباعيين، وأشهرهم كلود مونيه. وهنا أيضاً يمكن للزائر أن يتنشق أطيب الروائح من الحدائق المحيطة بالمتحف، بأزهارها التي كانت ملهمة لأروع ما تفتقت عنه قرائح الرسامين المعاصرين، من لوحات تباع اليوم بالملايين.