09 أكتوبر 2025

د. باسمة يونس تكتب: طوق الحمامة

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية. أصدرت (10) مجموعة قصصية، (4) روايات،(12) نص مسرحي وعدة أعمال درامية وإذاعية .حاصلة على أكثر من( 22 ) جائزة في مجالات الرواية والقصة والمسرحية

مجلة كل الأسرة

في كتابه الفريد «طوق الحمامة في الألفة والأُلاف»، يقف «ابن حزم الأندلسي» موقف العارف بأسرار القلوب، فيصف الحب بأنه اتصال الأرواح قبل الأجساد، وميل خفيّ يأسر النفس من دون استئذان، كأنه برق يلمع في ظلام الحياة فيكشف للحظة عن جمال الوجود.

كانت حياة ابن حزم الحافلة بالتقلبات السياسية، والمملوءة بالحزن والوحدة سبباً، ربّما، في شغفه بالحب الإنساني والتعمّق فيه. كان يرى أن الحب ليس حاجة طارئة، ولا نزوة عابرة، بل هو معنى عميق يسكن القلب، ويعيد ترتيب العالم في عينَي العاشق، حتى يصير المحبوب وطناً صغيراً تتقاطع عنده كل الدروب. ولأن ابن حزم عاش في زمن لم تعرف فيه القلوب هذا الضجيج الذي يملأ حياتنا اليوم، فقد قدّم للحب صورة نقية تنبع من أعماق الروح، وتفيض في الملامح، والأفعال، والكلمات البسيطة التي تحمل بين طياتها عالماً كاملاً من العاطفة.

وقد خصصّ ابن حزم في كتابه فصلاً كاملاً لعلامات العشق، فذكر أن أولاها الإقبال والإنصات، أن ترى المحب منصرفاً بكل جوارحه إلى من يحب، حاضر القلب والفكر والروح، مُنصتاً له حتى إن كان حديثه عادياً لا جديد فيه. ثم يأتي اضطراب المحب عند اللقاء، ذلك الارتباك الذي يشي بهتانه أمام المحبوب، فتتغيّر ملامح وجهه، ويضطرب صوته، وتحمرّ وجنتاه، وربما تلعثم لسانه في أبسط العبارات. ويحدّثنا أيضاً عن الإكثار من ذكر المحبوب، فالعاشق لا يملّ من تكرار اسمه، والسؤال عن أخباره، يلمّح مرة ويصرّح مرات، حتى يكاد حديثه كلّه يدور حوله. ولا ينسى الغيرة، تلك النار الحلوة التي تشتعل في صدر المحب إذا رأى من ينافسه في نظرات المحبوب، أو حديثه، أو اهتمامه. وأخيراً، يصف ما يسميه مواطأة القلب، أي ذلك التوافق الخفي بين العاشقين، كأن قلبيهما يتحدثان بلغة لا يفهمها سواهما، نظرة تقابلها ابتسامة، وصمت يملأه الأنس والرضا، وغياب لا يطفئ الشعلة المتقدة في الداخل.

لكن لو عاد ابن حزم إلى زماننا لرأى كيف تغيرت مظاهر الحب في زمن السرعة والتقنية، فالإقبال والإنصات تحوّلا إلى متابعة على منصّات التواصل، والإكثار من ذكر المحبوب صار تفاعلات، وتعليقات، وصوراً مشتركة، والغيرة امتدت إلى الإعجابات الافتراضية، بعد أن كانت نظرات عابرة في الأسواق والمجالس، وحتى الاضطراب القديم خفّ وهجه مع الرسائل النصية التي تمنح فرصة للتفكير قبل الرّد. ومع ذلك، يبقى جوهر الحب كما وصفه ابن حزم ثابتاً لا يتبدل، فمهما اختلفت الوسائل تبقى القلوب خاضعة لسحره، وتبقى لوعة العاشق واحدة في كل زمان، انتظاراً، ولهفة، وخوفاً، ورجاء، واطمئناناً غريباً أن هذا المحبوب وحده يكفي ليمتلئ العالم بهجة ومعنى.

ولعلّ هذا ما يجعل طوق الحمامة حاضراً حتى اليوم، فقد ترك أثراً عميقاً في الأدب العربي، والكتابات الإنسانية عن الحب، لأنه أول عمل جمع بين الصدق العاطفي والدقة الفلسفية، بين التجربة الذاتية والتحليل النفسي، فصار مرجعاً للأدباء والعشاق والباحثين، في آن واحد. وما زال القراء يجدون في صفحاته تلك اللغة الدافئة التي تمنح للحب وقاراً وجمالاً، وتعيد إلى القلب يقينه بأن العاطفة الصادقة تظلّ لغة مشتركة بين كل الأزمنة، مهما تغيّرت الوجوه، والوسائل، والملامح، من قرطبة القديمة إلى مدن العصر الحديث.