في كثير من البيوت، تتوارى المرأة خلف دور الزوجة والأم، فتنسى نفسها، وتضع الشريك في مركز حياتها، ظناً منها أن هذا هو الحب الحقيقي، لكن هذا العطاء غير المتوازن قد يتحوّل مع مرور السنوات إلى استنزاف صامت، يلتهم هويتها، وصحتها النفسية والجسدية، لتجد نفسها أمام فاتورة باهظة من الأمراض المزمنة، والشعور بالفراغ، وفقدان المعنى. فالحب الناضج لا يعني الذوبان في الآخر، بل التوازن الذي يجعل المرأة حاضرة لذاتها، بقدر ما هي حاضرة لشريك حياتها.
نلتقي الدكتورة فاطمة الغرباوي، محاضرة في قسم علم الاجتماع، بجامعة الشارقة، لتحدثنا عن قيمة التوازن، ودوره في جعل العلاقات صحية ومثمرة، فتقول «في مجتمعاتنا العربية، يُقدَّم نموذج المرأة المضحية بذاتها على أنه أقصى مراتب النضج الأنثوي، بل ويتحول إلى مقياس للنجاح الأسري والاجتماعي، ولكن ما يغيب عن هذا التصور المثالي هو الكلفة الباهظة التي تدفعها كثير من النساء بصمت. إذ تبدأ ملامح الانهيار الصامت بالظهور كلما تآكلت الهوية الشخصية، واختُزلت المرأة في دور الزوجة والأم فقط، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن تمركز المرأة حول أدوار الرعاية من دون توازن في توزيع المسؤوليات داخل الأسرة، يؤدي إلى إرهاق نفسي مزمن، وشعور بالفراغ، والاغتراب الذاتي، ويزداد حدّة مع التقدم في العمر، وتراجع الأدوار الاجتماعية التي كانت تشغل بها المرأة فراغها الداخلي».
التضحية ليست خطأ في حدّ ذاتها لكنها مشكلة حين تتحول إلى فخ وجودي يُفقد المرأة ذاتها
«ووفقاً لعالم النفس والاجتماع إرفنغ غوفمان، الذي يعد أشهر العلماء الأمريكيين تأثيراً في القرن العشرين، تتشكل الهوية الذاتية ضمن التفاعلات اليومية، وحين تحصر المرأة وجودها في تلبية متطلبات الزوج، تنزاح هويتها تدريجياً، وتفقد الإحساس بذاتها ككيان مستقل. ويتزامن هذا التآكل مع تراجع الاحترام الذاتي، لا سيما حينما تكون العلاقة قائمة على الاعتمادية الزائدة، التي تخلق وهم الأمان، لكنها في الواقع تقيد النمو الشخصي والعاطفي. ومع مرور السنوات، لا تتغير المرأة فحسب، بل تتغير احتياجاتها النفسية والعاطفية، أيضاً، وتصبح أكثر وعياً لحاجتها إلى الشراكة العاطفية والتقدير، وهي أمور نادراً ما توفرها علاقة قائمة على التبعية، لا على التوازن، وبهذا لا يعود ما يُسمى بـ«الحب» كافياً، فكما يؤكد عالم النفس إريك فروم، الحب الناضج هو علاقة متبادلة بين شخصين ناضجين، لا ذوبان أحدهما في الآخر، ويصف بعض علماء النفس والاجتماع هذا النمط من العلاقات بـ«العنف النفسي الناعم»، حيث يتم تقييد المرأة عاطفياً باسم الحب والتضحية، من دون إدراك أنها تعيش حالة من الطمس الذاتي تحت عباءة الفضيلة».
ولكسر هذا النمط، تشير الدكتورة فاطمة الغرباوي، إلى أهمية احتياج المرأة إلى إعادة بناء علاقتها بذاتها، واستعادة صوتها الداخلي، مروراً بممارسة الاستقلال العاطفي، وصولاً إلى طلب الدعم النفسي عند الحاجة، وتضيف «يتطلب التغيير مراجعة شاملة لمنظومة التنشئة الاجتماعية التي تكرّس منذ الطفولة صورة «المرأة المنسية» كمثالية، فالاحتفاء بالتضحية ليس خطأ في حدّ ذاته، لكنه يصبح خطراً حين يتحوّل إلى فخ وجودي يُفقد المرأة ذاتها تحت شعار الحب والأسرة».
بعد أن تعرفنا إلى أثر تمحور الزوجة بعيداً عن ذاتها، ومعرفة كيف ينعكس ذلك على صحتها الجسدية والنفسية، بمرور السنوات، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكنها أن تستعيد توازنها الداخلي، وتعيد ترتيب أولوياتها، من دون أن تهّدد استقرار حياتها الزوجية؟
تشير د. فاطمة إلى أن الحل يبدأ بخطوات بسيطة تمنح المرأة مساحة لتتنفس، وتنمو، وتزدهر:
اقرأ أيضاً: احذروا زلة اللسان.. كلمات عابرة تهدم البيوت