
في عصر تهيمن فيه التكنولوجيا على تفاصيل الحياة اليومية، لم يعد مستغرباً أن يجد الأطفال في الذكاء الاصطناعي مرشداً ومجيباً عن أسئلتهم، حتى تلك التي كانت توجه سابقاً إلى الأهل، لتتحول منصات مثل (شات جي بي تي)، إلى الصديق الذكي، الذي لا يملّ من التكرار، ولا يطلب وقتاً لاحقاً للإجابة.
وبينما يرى البعض في هذا التطور وسيلة تعليمية متقدمة، يطرح آخرون تساؤلات مقلقة: هل بدأ الأطفال يبتعدون عن والديهم؟ ولماذا يفضلون الآلة على التواصل الإنساني؟.

أماني الدوسري، كوتش الاستدامة النفسية والتمكين الذاتي والمؤسسي، تقول «يشهد المجال التربوي والاجتماعي تحوّلات ملحوظة في أنماط تفاعل الأطفال مع مصادر المعرفة، بخاصة مع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي التفاعلية مثلChat GPT، فقد أصبح من المألوف أن يلجأ الأطفال إلى هذه المنصات لطرح أسئلتهم اليومية، في ظل تراجع الحوار الأسري التقليدي، أو نقص التفاعل المباشر داخل البيوت. وتثير هذه الظاهرة تساؤلات تربوية ونفسية حول تأثيرها في العلاقة بين الطفل ووالديه، وفي بنية القيم الأسرية، فضلاً عن تأثيرها في أنماط التفكير والاستقلالية المعرفية لدى الطفل، والذي كان في السابق، حين يتساءل عن أمر ما، يركض إلى أحد والديه باحثاً عن جواب، مطمئناً أن هناك من يسمعه ويجيبه بحنان، ليتغيّر المشهد اليوم ونجده يجلس بهدوء في زاوية الغرفة، يكتب سؤاله في محرك ذكاء اصطناعي، وينتظر شاشة باردة أن تشرح له العالم».
يرى الطفل في الذكاء الاصطناعي أداة لطرح الأسئلة الغريبة والمحرجة بعيداً عن اللوم والمحاسبة
لماذا أصبح الذكاء الاصطناعي صديقاً؟
والسؤال الذي يفرض نفسه، ما الذي يجعل الذكاء الاصطناعي صديق درب لتلك الفئة العمرية؟ «هناك عدة أسباب، أهمها:
- السرعة وسهولة الوصول، فالأطفال اليوم يعيشون في بيئة رقمية، ويرون في أدوات الذكاء الاصطناعي التفاعلية أداة فورية للإجابة.
- كما أن بعضهم قد يتردّد في طرح أسئلة يظنون أنها «غريبة»، أو «محرجة» على والديهم، فيلجأون إلى منصة لا تحكم عليهم، ولا تظهر انفعالاً يحمل صيغة لوم، أو عتاب.
- فضلاً عن الشعور بالراحة عند طرح أسئلة للموضوعات الحساسة مثل الجسد، العلاقات، أو حتى المشاعر المعقدة، فاختفاء الخوف من اللوم أو المحاسبة يجعل الطفل يشعر بالأمان، حتى لو كان سؤاله صعباً، أو محرجاً، لكن يبقى هذا الأمان ظاهرياً فقط، لأنه لا يرافقه دعم عاطفي أو توجيه تربوي سليم».
مخاطر لجوء الأطفال إلى الذكاء الاصطناعي بدلاً من أبويهم؟
مخاطر تربوية صامتة حال استبدال التواصل الأسري بالتفاعل مع الذكاء الاصطناعي، منها:
- فقدان الدفء الأسري: الآلة لا تستطيع أن تعانق، أو تواسي، أو تنظر في العين لتفهم ما وراء الكلمات.
- تعزيز الوحدة والانفصال العاطفي: التفاعل المتكرر مع الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى الشعور بالوحدة والانفصال إذا لم يقابله تواصل إنساني حقيقي، فالأسرة هي الملاذ الأول، والذكاء الاصطناعي مهما تطور، لا يمكن أن يعوّض الحنان والاحتواء.
- ضعف المهارات الاجتماعية: الطفل لا يبحث عن إجابات ومعلومات فقط، بل عن مشاعر تُصاحب تلك المعلومة، وعن شخص حيّ، يستمع ويجيب بقلبه قبل لسانه.

وعن طبيعة الأسئلة التي يبحث الطفل عن إجابات عنها، وتأثير استخدام الذكاء الاصطناعي في العلاقة بين الطفل ووالديه، تشير الدوسري «في الأغلب تتنوع الأسئلة التي يطرحها الطفل بين الفضول العلمي (لماذا السماء زرقاء؟)، وأسئلة الهوية والنمو (ما معنى البلوغ؟)، والأسئلة الوجودية (ماذا يحدث بعد الموت؟)، وكثير من هذه الأسئلة قد يتردّد هذا الكائن الصغير في طرحها على والديه، بخاصة إذا كان لا يشعر بالأمان، أو لا يلقى وقتاً كافياً للاستماع. وإذا لم تتم إدارة الأمر بحكمة من جانب الوالدين، فقد يؤدي ذلك إلى تباعد عاطفي تدريجي، فحين يعتاد على طرح أسئلته ومشاركة فضوله مع آلة، يبدأ الحوار الأسري بالتراجع، ويغيب الدور الأهم في فلترة المدخلات. فالذكاء الاصطناعي يقدم إجابات دقيقة في معظم الأحيان، لكنه ليس بديلاً من التوجيه البشري، فقد تكون بعض المعلومات غير مناسبة لعمر الطفل، أو تحتاج إلى تبسيط أو توضيح، أو تفتقد للسياق الأخلاقي، والديني، والثقافي، لذلك من الهام أن يراقب الوالدان المحتوى الذي يتلقاه طفلهما، ويكونا المرجع التربوي الأساسي في تفسير الأمور، فتوظيف الذكاء الاصطناعي بشكل مكمل لا بديل، يمكن أن يكون فرصة لتعزيز الحوار بين الطرفين، وبما يسهم في تشجيع الطفل على التفكير النقدي، والمقارنة بين مصادر متعددة».

كيف يمكن للأسرة أن تستعيد دورها؟
الحل لا يكمن في منع الطفل من استخدام Chat GPT، بل في مرافقته في رحلته الرقمية:
- كونوا شركاء في الاكتشاف لا متفرجين، واسألوا الطفل «ما رأيك أن نبحث معاً؟»، أو «هل تود أن تشرح لي ما تعلمته اليوم؟»، بهذه الطريقة يشعر بأن استخدام التقنية جسر للتواصل لا حاجز.
- تخصيص وقت حقيقي للحوار غير المرتبط بالتكنولوجيا، حتى تظل العلاقة قائمة على المشاعر، والتجارب الإنسانية الفعّالة.
- أظهروا اهتمامكم بفضوله وأسئلته، وشغفكم بالبحث عن إجابات عنها، من دون ضيق أو ضجر.
في النهاية، لا يمكن للآلة أن تحلّ محلّ الإنسان، ولا للشاشة أن تمنح الحنان، فـ Chat GPT قد يجيب، لكنه لا يربّي، وقد ينصح، لكنه لا يعوّض حضناً، أو كلمة طمأنينة.