
في الحياة الزوجية، لا يخلو أيّ بيت من النقاشات، والاختلافات في وجهات النظر، لكن حين يتحوّل الحوار إلى جدل يومي مرهق، ويصبح كل حديث بسيط ساحة صراع، تبدأ العلاقة بين الطرفين بالانهيار التدريجي.
وعلى الرغم من أن الجدل قد يُفهم، أحياناً، على أنه رغبة في الفهم والتفاهم، إلا أن بعض الأزواج يتخذونه أسلوب حياة يهدف إلى فرض السيطرة، ورفض الآخر، فالشخص المجادِل لا يمرّر الأمور بسهولة، بل يجد في كل موقف، مهما كان تافهاً، سبباً للحديث المطوّل، والاعتراض، وفرض الرأي.

تفسر لنا د. نادية الخالدي، دكتوراه في الإرشاد النفسي والصحة النفسية، الأسباب التي قد تدفع الزوج إلى اعتماد الجدال كأسلوب نقاش «تلعب الثقافة المجتمعية دوراً كبيراً في تشكيل وجهات النظر، فالرجال في كثير من المجتمعات العربية يُشجَّعون على رفع الصوت، والهيمنة في الحوار، لذا يُستخدم الجدل أحياناً كأداة للسيطرة. فالجدل المستمر قد يكون سلوكاً مكتسباً من بيئة الطفولة، بخاصة إذا نشأ الرجل في بيت يشيع فيه الصراخ والنقاشات الحادة، لكنه، أحياناً، يكون عرضاً لاضطرابات نفسية أو سلوكية، مثل اضطراب الشخصية النرجسية، أو الوسواس القهري، أو حتى سمات من اضطراب الشخصية الحدّية، ففي هذه الحالات، يستخدم الزوج الجدل كآلية دفاعية للتغلب على مخاوفه الداخلية، أو شعوره بعدم الأمان. وبلا شك، ينهك هذا الأسلوب الطرف الآخر، إذ تصف بعض النساء هذا الشعور بـ«المشي على قشر البيض»، حيث يتحول التوتر الناتج عن أيّ نقاش إلى حالة نفسية دائمة من القلق، والتعب النفسي، وربما الاكتئاب، وتصل الأمور في بعض الحالات إلى العنف العاطفي، بخاصة عندما يكون الجدل مصحوباً باستهزاء، أو انتقاص، أو تقليل من قيمة الزوجة تحت غطاء النقاش».

على صعيد آخر، نجد من يعانون في صمت، وهم الأطفال الذين يعدّون الحلقة الأضعف في هذه الأسرة «يتحول الأطفال في هذه البيئة الأسرية إلى ضحايا صامتين لهذا النمط من العلاقات، ويتعلمون منذ الصغر أن الجدل أسلوب تواصل طبيعي، فينشأ بعضهم على تقمص هذا السلوك، وربما ممارسته في الكبر، لتبدأ سلسلة جديدة من المعاناة مع أشخاص جدد، فيما يتجه آخرون إلى الصمت والانسحاب، هرباً من الدخول في هذا الصراع».
لم تدرك حجم الضرر إلا حين لاحظت أن أطفالها بدأوا يقلّدون والدهم، يرفعون أصواتهم ويتعاملون بنديّة قاسية مع بعضهم بعضاً، ليكون ذلك جرس الإنذار
تأخذنا الدكتورة الخالدي في رحلة داخل أعماق بعض الحالات التي تعاني بصمت، ولجأت إليها طلباً للعون «جاءتني امرأة في الثلاثين من عمرها، تشتكي بعدما وجدت نفسها غارقة في دوامة من الجدل المستمر مع زوج لا يدع موضوعاً يمر من دون نقاش حاد. في البداية، ظنّت أن الأمر لا يتعدى حباً بالتفاصيل، وميلاً للحوار، لكن سرعان ما اكتشفت أن كل حديث بسيط يتحوّل إلى ساحة صراع، وكل محاولة للتعبير عن مشاعرها تُقابل بالمقاطعة، والتحدّي، والانفعال، ليتحول البيت من مساحة أمان إلى بيئة خانقة، تعيش فيها بحذر شديد، متوقعة انفجاراً في أي لحظة، حتى في أكثر المواضيع تفاهة، كاختيار لون مفرش الطاولة، أو ترتيب أغراض الخزانة.. ومع تكرار هذا النمط المرهق، تسلّل التوتر والقلق إلى يومياتها، وبدأت تعاني نوبات نفسية مزمنة، ليستغرق الأمر مدة طويلة تعاني فيها الإنهاك العاطفي، قبل أن تدرك أن ما تتعرض له ليس نقاشاً عادياً، بل عنف عاطفي مقنّع تحت غطاء الحوار».
«وفي زاوية أخرى من الحكايات الصامتة، تروي زوجة، (45 عاماً)، تجربتها مع شريك حياة اتخذ من الجدل وسيلة يومية لإثبات سلطته داخل المنزل، وعلى الرغم من أنه لم يكن يرفع صوته دائماً، لكنه كان يرفع وتيرة التوتر بكلماته، وطريقة نقاشه، فما كان من الزوجة إلا أن تتجنب الدخول معه في أيّ حديث، ليس لأنها مقتنعة، ولكن لشعورها بالتعب من انتهاء كل حوار بأنها هي من أخطأت، وعلى الرغم من أنها اختارت تجنب المواجهة، إلا أن حياتها تحوّلت إلى حقل ألغام، تتحرك فيه بحذر شديد كي لا تفتح باباً جديداً للجدل. ولكن مع الأسف، لم تشعر صاحبة تلك المشكلة بالسلام النفسي، بل بدأت تخسر جزءاً من طاقتها، وثقتها بنفسها، وصورتها أمام أبنائها، ولم تدرك حجم الضرر إلا حين لاحظت أن أطفالها بدأوا يقلّدون والدهم، يرفعون أصواتهم، ويتعاملون بنديّة قاسية مع بعضهم بعضاً، ليكون ذلك جرس الإنذار الذي دفعها لطلب استشارة أسرية، لتدرك أن الصمت لم يكن حلاً، بل كان جزءاً من المشكلة».

نصائح للتعامل مع زوجك المجادل
تقدم الدكتورة نادية الخالدي بعض النصائح التي يجب أن تتبعها الزوجة إذا ما فرض عليها التواجد في معركة نقاش قائمة على الجدال المستمر:
- حافظي على هدوئك واختاري «المعارك» التي تستحق أن تُخاض.
- لا تردّي على كل نقاش حتى لا تكونين عرضة للإرهاق النفسي طوال الوقت.
- تعلمي متى تتوقفين عن المشاركة في الحوار المشحون بطاقة الجدال، كي تحمي نفسك من الاستنزاف العاطفي.
- افصلي نفسك عن الجو المشحون باتّباع نمط سلوكي معيّن وقت الوصول إلى ذروة النقاشات، كأن تمارسي هواية تحبينها، أو تؤدي عمل ما يشعرك بالراحة الداخلية.
- الجئي إلى مختص إذا أصبح الوضع مؤذياً ومستمراً، وبات الجدل متكرراً، ومؤثراً في العلاقة الزوجية، فهنا لا بد من تدخل محلل نفسي، أو استشاري أسري، فالعلاج السلوكي المعرفي يمكن أن يساعد الزوج المجادل على فهم دوافعه الداخلية، وإعادة ضبط طريقته في التواصل مع شريكة الحياة.
«وختاماً: الجدل في العلاقات ليس مشكلة بحد ذاته، لكن عندما يتحول إلى سلوك متكرّر مسبب للألم النفسي، والشرخ العاطفي، فهو ناقوس خطر، فلا أحد يستحق أن يعيش في علاقة قائمة على المعارك الكلامية اليومية، وعلى كل طرف أن يسأل نفسه: هل نحاور لنتقارب؟ أم لنتغلب ونسيطر؟».